توقع بنك قطر الوطني تراجع معدلات نمو التجارة الدولية في المستقبل وصعوبة تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول، بسبب تزايد التوترات الجيوسياسية، واستنفاد سبل تحرير التجارة القائم على خفض التعريفات الجمركية، وظهور ديناميكيات جديدة للتنمية في الصين، مشيرا إلى أن التوسع التجاري القوي أصبح من الماضي.
وأوضح البنك، في تقريره الأسبوعي، أن التوسع الكبير في التجارة الدولية للسلع كان أحد دعائم الاقتصاد العالمي خلال الخمسين عاما الماضية، وكان محركا أساسيا للنمو وأدى إلى فوائد اقتصادية كبيرة تمثلت في انخفاض الأسعار للمستهلكين وزيادة الإنتاجية في جميع أنحاء العالم، لكن عند النظر إليه كنسبة من الناتج الإجمالي العالمي، يبدو أن تقدم التجارة توقف منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009، ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت تجارة السلع العالمية بلغت ذروتها.
وأضاف التقرير أن فترة العوامل الهيكلية الداعمة لنمو التجارة العالمية انتهت منذ أمد طويل، وأن العوامل الجديدة تشير إلى مزيد من الرياح المعاكسة في المستقبل القريب.
وأشار إلى أن النمو القوي تعزز في التجارة الدولية للسلع قبل الأزمة المالية العالمية بفعل عوامل مختلفة، تتمثل في إحراز تقدم كبير في مجال تحرير التجارة وإبرام العديد من اتفاقيات التجارة الإقليمية في تسعينيات القرن الماضي، ومساهمة عملية التنمية الاقتصادية في مختلف الدول في نمو التجارة، بالإضافة إلى تطوير أنظمة الدفع الإلكترونية الذي أدى إلى خفض تكاليف معاملات التجارة الدولية، ما جعل المشاركة في الأسواق العالمية في متناول الشركات، كما عززت تلك الأنظمة الوصول للمعلومات، ما سهل الوصول للأسواق والموردين الأبعد.
وبين التقرير أنه في ظل هذه التطورات، ظهرت سلاسل القيمة العالمية (GVC)، حيث بدأ الإنتاج يتم على عدة مراحل عبر مختلف الدول، مشيرا إلى أن سلاسل القيمة العالمية كان لها تأثير مضاعف على أحجام التجارة، حيث أن كل وحدة من المنتجات المصدرة تتطلب مدخلات ومنتجات غير مكتملة الصنع لعبور الحدود عدة مرات، حيث تتطلب على سبيل المثال صناعة أحد الهواتف الشهيرة مكونات من موردين في 43 دولة، والذي بدوره يتطلب مدخلات وسيطة من مصادر مختلفة.
وتابع التقرير: فيما يتعلق بتحرير التجارة، هناك الآن مجال محدود لإجراء تخفيضات إضافية في التعريفات الجمركية، في حين كان تخفيض التعريفات محركا مهما لنمو التجارة في الماضي، لا سيما من خلال دمج الدول متوسطة ومنخفضة الدخل في الاقتصاد العالمي، فإن متوسط معدل التعريفات المطبقة حاليا منخفض في كل من الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة”. وأشار إلى أنه لا توجد رغبة سياسية كبيرة في إجراء مزيد من التخفيض للتعريفات التي تعتبر منخفضة حاليا، فذلك سيؤثر في الغالب على القطاعات الحساسة، مثل القطاعات المتعلقة بالزراعة والأمن القومي.
واعتبر أن عملية التكامل الاقتصادي التي حدثت في العقود السابقة أصبحت مهددة الآن بالتوترات الجيوسياسية وبتزايد الحمائية التجارية، إذ أدت النزاعات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين التي بدأت في عام 2018، يليها الأزمة الروسية الأوكرانية، إلى زيادة الحواجز التجارية والعقوبات وحظر التكنولوجيا.
وفي هذا السياق، أشار التقرير إلى اصدار وزارة التجارة الأمريكية أواخر العام الماضي مجموعة استثنائية واسعة من تدابير الحظر على صادرات رقائق أشباه الموصلات وغيرها من المعدات ذات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، علاوة على ذلك، ظهرت الحمائية حتى في العلاقات التجارية بين الحلفاء، فعلى سبيل المثال، ينص قانون خفض التضخم الأمريكي (IRA) الذي تمت الموافقة عليه في منتصف العام الماضي على تقديم الدعم المباشر للصناعات التي تحتدم فيها المنافسة مع الشركات الأوروبية، ما يضع حواجز فعلية أمام الشركات الأجنبية العاملة في السوق الأمريكية.
ورجح التقرير أن تسهم العوامل المرتبطة بالتنمية الاقتصادية في تباطؤ الأهمية النسبية للتجارة، حيث يعتبر التحول الهيكلي من السمات المميزة للنمو وتزيد بموجبه حصة الخدمات في الاقتصاد مقارنة بالتصنيع والزراعة، إذ تقلل هذه العملية بشكل طبيعي من وزن التجارة في الاقتصاد، مستشهدا بتراجع مستويات التجارة في الصين، التي شكلت 64 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي في ذروة عام 2006، إلى أقل من 40 بالمئة في الوقت الحالي، لتقترب من المستويات السائدة في “الاقتصادات الضخمة” مثل الولايات المتحدة، والتي تبلغ حوالي 25 بالمئة، ونظرا لأن الصين تعمل على إعادة التوازن لنموذج النمو الخاص بها من خلال زيادة الاستهلاك المحلي، بدلا من الصادرات، فإن هذه العملية ستتسارع في الفترة المقبلة، لتبلغ النسب المسجلة في الولايات المتحدة.