“ليلة عجب” على ركح المركب الثقافي بجندوبة: عندما يتحوّل المسرح إلى مرآة للوجدان الشعبي ومختبر للضحك الهادف

في ليلة صيفية على ركح المركب الثقافي عمر السعيدي بجندوبة، وبتاريخ الجمعة 31 جويلية 2025، احتضنت ولاية جندوبة عرضًا مسرحيًا بعنوان “ليلة عجب”. هذا العمل الغنائي الكوميدي، من تأليف وإخراج عبد القادر الدريدي، قدّم تجربة مسرحية فريدة من نوعها، حيث انصهرت عناصر الفكاهة، الموسيقى الحية، الرقص التعبيري، والفرجة البصرية في قالب درامي ساخر، عكس بمهارة وجدان المجتمع التونسي وتناقضاته.
زاوية “سيدي الفاني”: مسرح الذاكرة الجماعية
تنطلق المسرحية من فضاء رمزي بالغ الدلالة: زاوية “سيدي الفاني”، التي تتحوّل إلى مركز للأحلام، المخاوف، التمنيات، والأوهام. في هذا المكان الغامض، تلتقي شخصيات متعددة، تحمل معها حقائب ثقيلة من الأزمات النفسية والاجتماعية، لتلتمس الحظ والبركة من “الزويّ”. ومن هنا، يبدأ العمل في تفكيك أحد أعمق مظاهر الثقافة الشعبية التونسية: اللجوء إلى القوى الغيبية بحثًا عن الخلاص.
لكن “ليلة عجب” لا تنزلق في فخ السخرية المجانية أو الهجوم على المعتقدات، بل تمضي قدمًا في طرح الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة. تساءلت المسرحية، في خفة ذكية، عن حدود الإيمان الشعبي، دور الزوايا، وتحوّل الروحاني إلى تجاري، بأسلوب جعل من الكوميديا أداة تفكيك ومساءلة.
كوميديا نقدية… تُحرّك التفكير
المواقف الهزلية التي تخللت العرض لم تكن ارتجالية أو عبثية، بل بنيت بحرفية لتكون مرايا تعكس سلوكيات متجذّرة في المجتمع التونسي: من الركض وراء “البركة”، إلى الانخراط في طقوس شعبية من دون تمحيص، ومن الاعتقاد في “الكرامات” إلى الإصرار على الحلول الميتافيزيقية بدل الواقعية. كل هذه الثيمات عُولجت بخفة ظلّ فنية، ما جعل العمل يتوجه إلى عقل المشاهد ووجدانه في آن واحد.
طاقم متنوّع… طاقة جماعية وإيقاع مسرحي متكامل
كان لافتًا في العرض الحضور المتوازن بين نجوم ذوي خبرة ومواهب شابة صاعدة، وهو ما منح العرض ديناميكية خاصة. تألّق كل من جلال الدين السعدي، أيمن المصري، أميمة المحرزي، صبري البوهالي، وSpeedy شكيب الغانمي، إلى جانب وجوه مسرحية جديدة أضفت حيوية واضحة على الركح.
وفي تصريح خاص، عبّر السعدي عن سعادته الكبيرة بهذا العرض، الذي يشارك لأول مرة في جندوبة، قائلاً: “أنا فرحان برشا بالعرض اللي قدمتو اليوم”، والجمهور كان متفاعل بطريقة جعلته يحس بقرب كبير منه، خاصةً أن الفعالية كانت في فضاء مغلق، مما زاد من حميمية اللقاء.
وأضاف السعدي أن أعماله المسرحية دائمًا ما تتناول قضايا تمسّ المواطن التونسي، حيث يكتب حول مشاغل الناس بأسلوب ذكي وكوميدي، مما يخلق علاقة مباشرة بين الجمهور والعرض، ويجعل الرسائل تصل إليهم بوضوح وفعالية.
سينوغرافيا ذكية… مزج بين البساطة والدلالة
لم تكن قوة “ليلة عجب” في النص والحوار فقط، بل أيضاً في السينوغرافيا الذكية، التي استثمرت بساطة الديكور لتخلق عالمًا داخليًا مكثّفًا.
الديكور لم يبالغ في التجسيد، بل اعتمد على رموز شعبية مألوفة (باب الزاوية، المسبحة، الياجور، الشموع…) ليزرع في ذهن المتفرّج إحساسًا بالمكان والذاكرة دون الحاجة للشرح المطوّل. و أضافت الموسيقى الحية المصاحبة لمشاهد الغناء والرقص بعدًا تفاعليًا جعل الجمهور شريكًا في العرض لا مجرد متفرّج.
تفاعل جماهيري… تصفيق، ضحك، وتأمّل
كان التفاعل الجماهيري أثناء العرض لافتًا حيث صفق الجمهور بحرارة. عبّر عدد من الحاضرين عن سعادتهم بنوعية هذا العرض، الذي اعتبروه “مسرحًا يُضحك… لكنه أيضًا يجعلك تعيد النظر في المسلّمات”. وآخرون وجدوا فيه جرأة محببة في معالجة موضوعات دقيقة، دون ابتذال أو مباشرة.
“ليلة عجب”: لحظة مسرحية مميزة في صيف 2025
أضاف عبد القادر الدريدي إلى رصيده الفني عملًا مميزًا لا يكتفي بإضحاك الجمهور، بل يستدعيه للمساءلة، ويمنحه لحظة فرجة أصيلة تتجاوز المتعة إلى ما هو أعمق: مساءلة الذات، والموروث، وتناقضات المجتمع.
“ليلة عجب” ليست مجرد مسرحية تُعرض وتنتهي. بل هي تجربة فنية ذات بُعد اجتماعي، رمزي، وروحي، تعكس قدرة المسرح التونسي على تجديد أدواته، وعلى ملامسة قضايا راهنة بذكاء فني عالٍ، يجمع بين الاحتراف، الجرأة، والوفاء للهوية التونسية.
ختامًا، وبين ضحكات الجمهور وأسئلة النص العالقة، تظلّ “ليلة عجب” لحظة إبداعية مميزة تُثبت أن المسرح ما يزال قادرًا على التجدّد.
ملاك الشوشي