ثقافةحضارات

جندوبة: ورشة الفسيفساء الثالثة بمهرجان بلاريجيا… حين يلتقي الفن بالهوية والقضية

من داخل جدران المركب الثقافي عمر السعيدي وجناح المتحف الأثري ببلاريجيا، انطلقت الورشة التكوينية الثالثة في فن الفسيفساء، ضمن فعاليات الدورة 49 لمهرجان بلاريجيا الدولي، لتشكل لقاءً نابضًا بين الذاكرة الحية والوعي المعاصر، وبين الحجارة الملونة والقضايا الكبرى.

تراث ينهض من رماده لطالما اعتُبرت الفسيفساء في جندوبة، وتحديدًا بموقع بلاريجيا، أكثر من مجرد فن زخرفي.

إنها لغة قديمة نُقشت على جدران التاريخ، تختزن تفاصيل الحياة اليومية للرومان والبربر والبيزنطيين، وتعكس تواصل الحضارات في هذه الرقعة الشمالية من تونس.

لكن اليوم، وبفضل هذه الورشات التكوينية التي أصبحت تقليدًا سنويًا في المهرجان، لم تعد الفسيفساء حكرًا على المتاحف والباحثين، بل أضحت تجربة معاشة، ينخرط فيها عشرات الشبان والشابات.

شباب يصنع ذاكرته بيديه أكثر من أربعين مشاركًا ومشاركة انخرطوا هذه السنة في تعلم تقنيات الفسيفساء، في أجواء إبداعية واحترافية.

مدير المهرجان، محمد شكري مديوني، صرح أن هذه الورشة تندرج في إطار استراتيجية واضحة للمهرجان تهدف إلى صيانة الموروث الثقافي والمحافظة على استمراريته عبر الأجيال.

وأضاف أن الدورة الحالية شهدت تطورًا لافتًا على مستوى عدد المشاركين ومهاراتهم، ما يعكس نجاح الرؤية التي تراهن على الشباب كحَملة للذاكرة الجماعية، وكصنّاع لمستقبل ثقافي متجذر ومستنير.

فن من أجل فلسطين الجانب الإبداعي في الورشة لم يقتصر على استلهام الرموز التاريخية لبلاريجيا، بل امتد ليشمل تفاعلًا حيًّا مع الأحداث الراهنة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

المكونة لقاء قروي لفتت إلى أن بعض اللوحات أنجزت خصيصًا لتجسيد معاناة غزة وصمود الفلسطينيين، من خلال رموز مثل الكوفية، مفاتيح العودة، والعلم الفلسطيني.

واعتبرت قروي أن إدماج هذه الرمزية داخل الفسيفساء لا يخلو من بعد سياسي وثقافي في الآن نفسه، يعكس وعي الشباب بأن الفن ليس ترفًا بل رسالة وموقف. انخراط نسائي لافت… وأصوات تطالب بالديمومة المكونة شيراز صديقي أعربت بدورها عن ارتياحها للإقبال المتزايد، خصوصًا من جانب الفتيات، على هذا الفن العريق، معتبرة أن ذلك مؤشر إيجابي على ارتفاع منسوب الوعي بأهمية التراث في تحقيق التوازن الثقافي والروحي للمجتمعات.

أما المشاركة أحلام تاجوري، فقد عبّرت عن امتنانها لهيئة المهرجان، معتبرة أن هذه الورشات تمثل متنفسًا ثقافيًا نادرًا في الجهة، ومجالا لاكتشاف الذات وتعلّم مهارات جديدة.

ولم تُخفِ أحلام رغبتها في تعميم هذه التجربة على بقية مناطق الولاية، من خلال دعم مؤسساتي ومجتمعي يسمح لها بالاستمرار والتطور.

مهرجان بلاريجيا… حين يتقاطع الفن والتكوين من خلال هذه الورشة، يكرّس مهرجان بلاريجيا الدولي مرّة أخرى طابعه الخاص الذي يجمع بين العروض الفنية الكبرى والأنشطة التكوينية ذات الصلة بالتراث. فالمهرجان لا يكتفي بتقديم فرجة مسرحية أو موسيقية، بل يسعى إلى خلق حركة ثقافية متكاملة، يكون فيها المواطن مشاركًا لا متفرجًا فقط. الفسيفساء، في هذه الدورة، لم تكن فقط مادةً للحفظ والترميم، بل مجالًا للتفكير، والتعبير، والانتماء.

من بلاريجيا القديمة، تنبعث اليوم فسيفساء جديدة: فسيفساء الذاكرة، والأمل، والمقاومة.

ملاك الشوشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى