من بنغازي إلى قلب إفريقيا: قيادة ليبية تعيد تعريف الأمن القاري ورهان سيسا على المستقبل

في عمق اللحظة الإفريقية الراهنة، حيث تتقاطع الجغرافيا بالتاريخ، ويشتبك الأمن بالهوية، لا يعود الحديث عن الاستخبارات مجرد شأن تقني أو أمني، بل يصبح سؤالًا وجوديًا: كيف تحمي إفريقيا نفسها بنفسها، وبأي وعي، وبأي قيادة؟
من هذا السؤال بالذات، يبرز الدور المتصاعد للجنة أجهزة الأمن والمخابرات الإفريقية «سيسا»، وتحديدًا في ظل رئاستها الليبية بقيادة الفريق أول حسين محمد العايب.
سيسا… عندما يصبح الأمن مشروعًا حضاريًا
منذ تأسيسها سنة 2004، وُلدت «سيسا» كحلم إفريقي يسعى إلى كسر التبعية الأمنية، وإعادة تعريف مفهوم السيادة في قارة طالما كانت ساحة مفتوحة لتقاطعات المصالح الدولية. عشرون عامًا مرّت، تراكمت خلالها التجارب، واصطدمت خلالها الطموحات بواقع الانقسامات، وضعف التنسيق، وتفاوت الرؤى بين الدول.
لكن التاريخ لا يتحرك بخط مستقيم. فهو ينتظر لحظاته المفصلية، حيث تلتقي الضرورة بالقيادة. وهنا جاءت الرئاسة الليبية، لا كدور دوري عابر، بل كإعلان ضمني عن مرحلة جديدة في الوعي الأمني الإفريقي.

الفريق أول حسين العايب… عقل أمني ورؤية دولة
الفريق أول حسين محمد العايب ليس مجرد رئيس لجهاز المخابرات الليبية، ولا مجرد رئيس دوري لسيسا، بل هو نتاج مدرسة أمنية تؤمن بأن الاستخبارات ليست أداة قمع، بل أداة استقرار. مدرسة تقوم على الفهم العميق لتعقيدات المجتمع الإفريقي، وعلى إدراك أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في السلاح، بل في الفوضى، والتفكك، وفقدان الثقة بين الدولة ومواطنيها.
الإجماع الإفريقي الذي رافق انتخابه رئيسًا لسيسا لمدة خمس سنوات، خلال المؤتمر العشرين في مدينة بنغازي، لم يكن مجاملة سياسية، بل اعترافًا صريحًا بكفاءة مهنية نادرة، وبقدرة قيادية استطاعت أن تحوّل جهاز المخابرات الليبية إلى مؤسسة يُنظر إليها باحترام داخل القارة.
بنغازي… أكثر من مكان
لم يكن اختيار بنغازي لاحتضان المؤتمر حدثًا عاديًا. المدينة التي عرفت الألم والصمود، أصبحت منصة لإعادة رسم ملامح أمن إفريقيا. وكأن الرسالة كانت واضحة: من المدن التي قاومت الفوضى، يمكن أن يولد مشروع الاستقرار القاري.
وليست ليبيا هنا مجرد دولة تتولى الرئاسة، بل دولة مؤسسة للاتحاد الإفريقي، تعود لتستعيد دورها الطبيعي، لا عبر الخطاب، بل عبر الفعل.

مراجعة الماضي لصناعة المستقبل
منذ توليه الرئاسة، أطلق الفريق أول العايب مسارًا جريئًا داخل سيسا: مراجعة نقدية شاملة لعشرين عامًا من العمل، تشخيص مواطن الضعف بلا مواربة، والاعتراف بأن بعض التحديات الأمنية الإفريقية لم تُدار بالعمق المطلوب.
ومن رحم هذه المراجعة، وُلدت خطة استراتيجية طموحة، لا تنظر إلى الأمن كحالة طوارئ، بل كمنظومة متكاملة: استباق، تنسيق، تبادل معلومات، وبناء ثقة بين أجهزة لطالما عملت في جزر معزولة.
الإعلام… الجبهة الصامتة
واحدة من أعمق التحولات في الرؤية الليبية لسيسا كانت إدراك أن المعركة الأمنية الحديثة تبدأ من الوعي. فالإعلام الإفريقي لم يعد مجرد ناقل للأحداث، بل أصبح ساحة صراع حقيقية، تُصنع فيها السرديات، وتُوجَّه فيها العقول.
لذلك، جاء التركيز على الإعلام كشريك استراتيجي، مكمّل لدور الاستخبارات، وحائط صد أمام التضليل، وأداة لبناء وعي جمعي إفريقي يحمي المجتمعات من الانزلاق نحو الفوضى.
فرصة لا تتكرر
اليوم، ترى غالبية رؤساء الأجهزة الأمنية الإفريقية في القيادة الليبية، ممثلة في الفريق أول حسين العايب، فرصة تاريخية. فرصة لإعادة بناء الثقة بين دول القارة، ولصياغة مفهوم جديد للأمن، ينبع من الداخل، ويحترم الخصوصيات، ويؤمن بأن استقرار إفريقيا لن يُستورد، بل يُصنع بأيدي أبنائها.
وفي زمن تتكاثر فيه الأزمات، تبقى الحقيقة الأكثر عمقًا:
أن الأمن ليس قرارًا، بل مسار وعي،
وأن سيسا، في عهد رئاستها الليبية، تقف اليوم على عتبة التحول من مؤسسة تنسيقية، إلى ضمير أمني إفريقي جامع، يحمل القارة من هشاشة الخوف، إلى أفق الاستقرار الممكن.
ملاك الشوشي




