أطلق وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق منصف بوكثير في شهر جويلية 2024، خلال ندوة صحفية، صيحة فزع، إذ لم يتجاوز عدد الناجحين في شعبة الرياضيات 9%، وطالب بضرورة أن يتغير هذا الوضع، وقد سبقته قبل ذلك وزيرة التربية السابقة سلوى العباسي فقد نبهت إلى تراجع نسب المتوجهين إلى هذه الشعبة وهو ما اعتبرته لا يليق بتونس ويتطلب مراجعة وحلولًا عاجلة، وفقها.
وقبل أيام من العودة المدرسية 2024-2025، نشر أساتذة ومدرسون وثيقة تحمل ختم وزارة التربية تشير إلى تخفيف البرامج الرسمية لمادة الرياضيات بالنسبة للمرحلة الإعدادية والثانوية من خلال حذف بعض المحاور من البرنامج.
غير أن هذه التخفيف من الدروس والمواضيع في هذه المادة أثار موجة انتقادات كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل الوزارة تؤكد في بلاغ مقتضب أنه “لا تغيير في برنامج الرياضيات بالمرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي”.
ولمزيد تسليط الضوء على هذه المحاور المحذوفة وتداعياتها على مستقبل التلاميذ، أكد أستاذ الرياضيات بالمعاهد العمومية والذي قضّى أكثر من 30 عامًا في تدريس مختلف الأقسام من الإعدادي إلى الثانوي صلاح الغابري، أن قرار التخفيف من برنامج الرياضيات لم تتخذه الوزيرة السابقة ولو كان كذلك لكانت خفّفت برنامج العربية (اختصاصها) ولكن قرار التخفيف اتخذه متفقدو المادة بالتشارك مع خبراء ومختصين وبعد تمحص وبحث وتفكير.
وشدد محدثنا على أنّ اجتماعات تمت طيلة أشهر الصيف للعمل على هذا الملف من قبل المتفقدين الذين شاركوا فيه من كافة أنحاء الجمهورية بعد التشاور مع أساتذة المادة وكذلك أساتذة جامعيين وتم حذف دروس بعينها دون غيرها لأن التلميذ سيدرسها مرة أخرى في السنة الثالثة رياضيات ولا فائدة من تدريسها له من السنة الثانية.
كما أن برنامج الرياضيات لشعب العلوم التجريبية والتقنية طويل جدًا وفيه عدد من الدروس يمكن حذفها لأنها لن تقدم إضافة للتلميذ في هذا الاختصاص والأجدر أن يتعمق في دروس أخرى في مجاله، وفق قوله.
وانتقد أستاذ الرياضيات صلاح الغابري موجة التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة وأن التحليل المقدم لا علاقة له بالواقع، بل إنه يدعو للسخرية كأن يقول أحدهم إن حذف درس “nombre complexe” يراد به حرمان التلاميذ من التفكير المركب العميق وجعلهم يفكرون بطريقة بسيطة وهو أمر لا يمت للواقع والمنطق بأي صلة.
ويستغرب أن تحظى هذه التحاليل المسقطة الصادرة من غير أهل الاختصاص بالإعجاب ومشاركة المنشور الفيسبوكي واعتباره حقيقة. وضرب محدثنا مثلًا درس الإحصاء القائم على “التوقع” فبيّن أن شعب العلوم التجريبية والإعلامية هم الأكثر استفادة منه بينما تلاميذ الرياضيات لديهم من الدروس ما يكفيهم، وفقه.
وأشار الأستاذ صلاح الغابري، إلى أن “المقطوعة المخروطية مثلًا تم حذفها منذ جائحة فيروس كورونا ولم يعترض أحد ولم يثر ذلك إشكاليًا فلماذا تم التفطن إليها هذه المرة؟” وفق تساؤله، مبرزًا أن المعضلة الأساسية هي طول البرامج التي يعجز الأستاذ عن إتمامها، وفقه.
وقال إن عملية الحذف راعت أولًا وأخيرًا مصلحة التلميذ وليست عملية اعتباطية وأن من قاموا بهذا العمل متفقدون بالتشاور مع أساتذة الاختصاص والخبراء وأن العمل كان شاقًا ومضنيًا طيلة الصيف وكلّف القائمين عليه التعب ومشقة التنقل، وكلّف الوزارة مصاريف أخرى ومن غير المعقول أن يتم التراجع عنه إرضاء لتعليق روّاد مواقع التواصل الاجتماعي الذين ليسوا من أهل الاختصاص في أغلبهم ولم يمارسوا المهنة ولم يتعاملوا مع هذه البرامج، وفق تعبيره.
وشدد محدثنا على ضرورة التخفيف من البرامج ومراعاة مصلحة التلميذ المعرفية وعم إثقال كاهله بدروس ليست من اختصاصه بل تعميق الجانب التطبيقي والعمل عليه واستغلال الوقت له.
في المقابل، اعتبر رئيس الجمعية التونسية للرياضيات والفنون محمد الإمام، أن تخفيف برامج مادة الرياضيات في المرحلتين الإعدادية والثانوية يمكن وصفه بأنه إجراء متهور أشبه بـ “السروال المثقوب” الذي قد يبدو ظاهريًا كحلّ أو تعديل، لكنه في الحقيقة يعمق الفجوة بين الطلاب والمادة.
وأضاف: “بدلاً من تقديم نتائج ملموسة وملمعة، نسمع جعجعة حول التغيير والتطوير، لكن ما يخرج إلى النور ليس إلا ضوضاء بلا فائدة تُذكر.. فالرياضيات ليست مجرد مجموعة من القواعد والعمليات الحسابية، بل هي علم يعزز التفكير النقدي والمنطقي، وبتخفيف محتوى البرامج يتم حرمان التلاميذ من فرصة التعمق في هذا المجال وتطوير مهاراتهم. هذا التخفيف يقوّض تطور الطالب الأكاديمي ويعزز فشل النظام التعليمي في تحقيق أهدافه. التغيير الحقيقي لا يجب أن يكون على حساب جودة التعليم أو عمقه” على حد تعبيره.
ويرى محدثنا أن تحسين وضع الرياضيات في المنظومة التعليمية، يجب أن يتم أولاً بإعادة صياغة البرامج بما يتناسب مع اختصاصات كل شعبة، فالتلاميذ الذين يتوجهون إلى العلوم التقنية أو الهندسية يحتاجون إلى برامج أكثر تعمقًا من أولئك الذين يختارون مجالات أخرى، فهذا التنوع يضمن توافق المحتوى مع مستقبل كل طالب بدلاً من تقديم برنامج واحد للجميع.
كما أن التركيز على التمارين العملية والهادفة يمكن أن يكون له تأثير إيجابي، وفقه، داعيًا إلى إدخال الألعاب التعليمية في المرحلتين الابتدائية والإعدادية ما من شأنه أن يسهم في تحسين فهم الطلاب للمفاهيم الصعبة بشكل سلس وممتع.
وقد شدد في السياق نفسه، على ضرورة مراجعة التوقيت المدرسي الحالي إذ يجب إضافة ساعات دعم إضافية للطلاب الذين يعانون من صعوبة في استيعاب الدروس، وهذا يتطلب تخصيص وقت كافٍ للدروس الخصوصية بحيث تغلب المادة المفيدة على الأساليب التجارية التي يسيطر فيها المال على المنطق.
ويختم حديثه قائلًا: “إذا كنا نطمح لتغيير حقيقي في النظام التعليمي، فإن تحسين برامج الرياضيات لا يتم فقط بالتخفيف، بل يجب أن يترافق مع إصلاحات شاملة تضمن التعليم الجيد والمتوازن”، وفقه.