فقدان البوصلة في الاعلام التونسي: من المستفيد؟
بقلم سندس الهادي – باحثة في الاعلام والاتصال
الاعلام لغة عصرية وحضارية لا يمكن الاستغناء عنها او تجاهلها ، ما يتطلب فهمها واستيعابها من خلال امتلاك مقوماتها وعناصرها ومواكبة التطورات التي تشهدها وسائله المختلفة ، حيث تعددت ادوات الاعلام وتنوعت ، واصبحت اكثر قدرة على الاستجابة مع الظروف والتحديات التي يفرضها الواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي في تونس ما بعد الثورة.
واذا كان من حق الرأي العام ان يعرف الحقيقة ويتابع ما يجري من احداث على الساحة المحلية والإقليمية والدولية ، فان التعاطي مع هذه الاحداث ونشرها ومتابعة ما يجري منها ، يجب ان يتم وفقا لضوابط مهنية ومعايير اخلاقية وإنسانية وموضوعية تراعي ظروف المجتمع ومزاج الرأي العام ، ما يعني ضرورة التوازن بين حق الجمهور بالمعرفة وبين مرجعيته الثقافية والأخلاقية والدينية على اعتبار ان المعايير الفاصلة بين اعلام وآخر هي في النهاية معايير مهنية وأخلاقية ، تجسد أطرا مرجعية يمكن الاستناد اليها في التمييز بين السلوك الايجابي والسلوك السلبي ، وبالتالي التفريق ما بين ظواهر سلوكية مقبولة وآخرى مرفوضة.
يعتبر البعض هذا التحليل أكاديميا بحتا يضفي مسحة من المثالية على ميدان تلوث بالدخلاء وأصبح لا يراعي المهنية و فنون التعامل مع الخبر , ويعتبرونه غير واقعي و غير مربح في ظل شركات اعلام تلهث وراء ما يملأ حساباتها البنكية ضاربين عرض الحائط بأخلاقيات المهنة .
الاعلام في تونس مابعد الثورة اصبح مرتعا للباحثين عن الظهور التلفزي و النجومية و للأسف ساعدهم في ذلك العديد من المهنيين , اصبحنا من اكثر الدول العربية تأسيسا لثقافة مايسمى ال BUZZ”” و هي مجموعة من الأساليب الرخيصة و التافهة و المسرحيات المفبركة و الملابس الفاضحة الخادشة للحياء وتناول للحياة الشخصية للضيوف كل ذلك لجلب أكثر عدد من المشاهدين او المستمعين و التنافس فيه من قناة لأخرى بعيدا كل البعد عن المضمون و الغريب أن الهبوط الأخلاقي لهذه الظاهرة الاعلامية هو في تزايد اسبوعي وشهري وسنوي , مما جعل القنوات التونسية العامة والخاصة تنسخ عن بعضها البعض تلك المنوعات التي تضع فريقين من المعلقين على اليمين و على اليسار يتبارزون في ما بينهم طيلة ثلاث ساعات , هؤلاء يكونون غالبا من نجوم العلب الليلية و نجوم ورقية صنعها اليوتيوب و مواقع التواصل الاجتماعي بعضهم ممثلين مسرحيين محترفين (ربما تدهور حالتهم المادية هو من جعلهم يقبلون بتنشيط هذه الحصص) و البعض الاخر من سلك المحاماة و المربين فتكون الحصة عبارة عن تهريج وصراخ و جعجعة كلامية لا تنجح عادة لا في تسلية المشاهد و لا في افادته بشيء , أما الأدهى في العملية أن يفتقد منشط الحصة لكل اداب الحوار بل و يعمل جاهدا على مزيد من التهريج في الأستوديو طيلة الوقت المخصص و في أحيانا أخرى يكون سببا في أزمات دبلوماسية مع دول اخرى بتهكمه على شخصيات اجنبية لها مكانتها في مجتمعاتها , ولا ننسى أن الاعلام متى نسيء استخدامه يمكن أن يحدث أزمات دبلوماسية عميقة (مصر و الجزائر سنة ….)
من أين هذه الظاهرة ؟ ومن درسها في كليات الاعلام؟
على حد علمي معهد الصحافة وعلوم الاخبار بريء من هذه الممارسات الاعلامية بل و يستغرب أساتذته و دكاترته الذين تكونا على أيديهم من انتشار هذه الظاهرة .
ولسائل أن يسأل أين هو تعديل الاعلام السمعي البصري الذي تبنته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري ؟ ماهو دورها فعليا أمام تنامي هذه الفوضى الاعلامية ؟ هل يرجع ذلك لنقص المتخصصين في ميدان الاعلام و الاتصال في صلبها ؟ أم هي معجبة بالمشهد الاعلامي التونسي بوضعه الحالي؟ اين المنظمات والجمعيات المعنية بالاختصاص؟ أين معهد الصحافة من هذه الحالة المزرية التي وصلنا اليها في تونس هل نسوا التاريخ الضارب في القدم لمهنة الصحفي في بلدنا ؟ ألم يكن المتفوقين في الباكالوريا هم من يدرسون الاعلام ؟ ألا يجدر بأهل المهنة أن يطلقوا صيحة فزع قبل أن نصبح أضحوكة العالم بسبب برامج وحصص ومنوعات ساقطة ؟ هل من حسيب رقيب لهؤلاء بعد فشل الهايكا في تقويم المشهد ؟
خطورة ما نعيشه ياسادة تكمن في مجاراة الآخرين في استخدام الاعلام بحيث لم نعد نضمن في تونس وسائل اعلام ذات مرجعية او منهجية تتماهى مع قواعد علم الاعلام ونظرياته.
مع كل آسف متطلبات السوق الاعلامي (البوز buzz) وماتعتمده من تشويه واشاعة و كذب و تزييف الخ عوضت قواعد علم الاعلام و الصحافة بما يضمن لها ترويج سلعتها الاعلامية في اكبر عدد ممكن من الاسواق.
حدوث هذه الممارسات الاعلامية الخاطئة والضبابية افرزت حالة من التيه والارباك اثارت الشكوك حول حقيقة دور وسائل الاعلام في الحياة العامة ، وما اذا كانت تقوم بالفعل بتأدية رسالتها المفترضة بما هي توعية وتثقيف ام لا . الامر الذي وفر اجواء عامة بررت الوقوف عند الكثير من المحطات الخلافية والاشكاليات التي فرضت نفسها على ساحة الاحداث المحلية ليس عفويا تنامي هذه الفوضى و عجز المهنين على حصرها و معالجتها و كأن يدا خفية تحرك خيوط تلفزاتنا من بعيد و يكون ذلك وجوبا له علاقة بتعقيد المشهد السياسي في تونس ..هذا من ذاك.
التلفزة كانت مصدر للتثقيف والتنوير أصبحت اليوم للتهريج صرنا نفضل برامج الأطفال والسبوعي الله يرحمه