يحلّ عام قضائي جديد (2025/2024) في مناخ استمرار تراجع مقومات استقلالية القضاء إن لم يكن نسفها، وفي واقع غياب الحركة القضائية السنوية للمرة الثانية منذ إعلان رئيس الدولة “التدابير الاستثنائية” يوم 25 جويلية 2021 مقابل تواصل واقع إدارة السلطة التنفيذية للمسارات المهنية للقضاة. وفي خضم هذا المناخ، يبدأ المحامون العام الجديد بسلسلة احتجاجات لمدة أسبوع رفضًا للتضييقات على حق الدفاع واحتجاجًا على الوضع المتردّي للقضاء والمحاماة.
-
مذكرات الوزيرة تقود المحاكم
لم تصدر الحركة القضائية للعام الجديد بسبب واقع تجميد المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بمقتضى الحركة القضائية العام المنقضي، وهي الحركة الوحيدة التي كان قد أصدرها هذا المجلس، وإن كانت تتعدّد الشهادات أن السلطة التنفيذية هي من حسمت عناوينها بحكم الأمر الواقع. وكان تجميد المجلس المؤقت فرضته السلطة بشمول تلك الحركة اثنين من الأعضاء بالصفة ليفقدا بالتبعية عضويتهما، مع إحالة عضوين آخرين بالصفة على التقاعد، ليختلّ نصاب المجلس، وبات بالتبعية غير قادر على ممارسة صلاحياته عبر حالة الفراغ المؤسساتي المفتعل.
في المقابل، وجدت السلطة التنفيذية عبر وزارة العدل تحديدًا مبرّرًا آخر لفرض سطوتها على القضاء العدلي على وجه الخصوص وذلك عبر مذكرات العمل التي جعلت الوزارة تبعد وتعيّن من تشاء من القضاة، في مختلف المواقع وفي كل أرجاء المحاكم، بدون أي اعتبارات موضوعية، وعلى أساس مدى موالاتهم للسلطة، وفق مراقبين للشأن القضائي.
جمعية القضاة التونسيين، تحدثت في بيان لها بتاريخ 9 سبتمبر 2024، عما يشبه “الحركة القضائية الواسعة” إثر إصدار وزيرة العدل عدد كبير من مذكرات العمل طيلة الأسابيع الأخيرة “بشكل متواتر وشبه يومي”. الجمعية تحدثت عن “نهج تسلطي متواصل تفرضه السلطة التنفيذية عبر وزارة العدل على القضاة”، و”توسع غير محدود وغير مسبوق لنفوذ وزيرة العدل داخل القضاء”.
والملاحظ، في هذا السياق، أن المذكرات الأخيرة شملت قضاة تعهدوا مؤخرًا بملفات تتعلق بجرائم ذات طابع انتخابي تهم مرشحين للانتخابات الرئاسية والحديث بالخصوص عن المرشح العياشي زمال، وذلك عبر نقل تعسفية وتجريد من الخطط كنقلة رئيسة المحكمة الابتدائية بمنوبة إلى محكمة الاستئناف بالكاف ونقلة رئيس المحكمة الابتدائية تونس 2 إلى محكمة الاستئناف بباجة.
عام قضائي بالنهاية لا يحمل أي جديد في عمقه عدا دوران عام جديد من مرحلة حرجة يعرفها القضاء التونسي في ظلّ هشاشة مقومات الاستقلالية في البناء الدستوري والتشريعي من جهة، وواقع طغيان قضاء الموالاة في الممارسة الواقعية.
-
المحاماة في أسبوع احتجاجي
في خضم هذا المناخ، استفاق مجلس الهيئة الوطنية للمحامين مؤخرًا وبضغط من القواعد على وقع تصاعد الانتهاكات المسلطة على حق الدفاع، وكانت آخر محطاتها إصدار محكمة الاستئناف بتونس لقرارها بحق المحامية سنية الدهماني على خلفية القضية المعروفة إعلاميًا بـ”هايلة البلاد”، وذلك دون تمكين المحامين من الترافع في الأصل. وهو قرار لم يكن إلا إقرار الحكم الابتدائي بالإدانة وذلك على خلفية تعليق إعلامي سرعان ما تحوّل، في المقابل، إلى عنوان شعار احتجاجي “هايلة البلاد، ظلم واستبداد”.
وفي الإطار ذاته، سجّل المحامون تضييقات من السلطة طيلة الفترة الماضية كحرمانهم من حق الاطلاع على ملفات قضائية، وتقييد حق زيارة منوبيهم خاصة في المحاكمات السياسية. وذلك دون إثارة عديد القضايا ضد محامين على خلفية ممارستهم لأعمالهم أو بمناسبتها على غرار التتبعات المثارة ضد ثلاثة محامين في هيئة الدفاع عن المعتقلين في قضية “التآمر” وهم منسقها عبد العزيز الصيد والمحاميتين دليلة بن مبارك مصدق وإسلام حمزة. تضييقات نفتها وزارة العدل في بلاغ عشية انطلاق العام القضائي رغم تعدد الشواهد الواقعية بشأن ما ظهر استهدافًا ممنهجًا لحق الدفاع.
والملاحظ أن هيئة المحامين في بيانها، تناولت بدورها واقع هشاشة استقلالية القضاء عبر نقلة القضاة وتعيينهم بمذكرات وزيرة العدل “مما أضفى مناخًا يمسّ من استقلالية القضاء وسيادة القانون وتهديدًا لمكتسبات الحقوق والحريات”. وهي إشارة فرضها استفحال تدخل السلطة التنفيذية في نقلة القضاة بالخصوص على خلفية اجتهاداتهم القضائية في ملفات الرأي العام، والتي شملت محامين بدرجة أولى.
كما أن هيئة المحامين التي طالما بدت غير صارمة في الدفاع عن منظوريها بالشكل اللازم والتصدي للدفاع عن الحريات العامة وذلك بحسب محامين حقوقيين، تناولت، في بيانها الاحتجاجي، ما أسمته “مماطلة السلطة وتسويفها لتسوية عدد من الملفات المهنية العالقة”، وهي الملفات التي كانت تعوّل الهيئة على تسويتها، وتؤسس على أساسها واقعًا تفادي الخطاب التصعيدي ضد السلطة السياسية طيلة الفترة الماضية.
وإجمالًا ضمن هذا السياق، يبتدأ المحامون العام القضائي الجديد، وبدعوة من هياكلهم، سلسلة تحركات احتجاجية بحمل الشارة الحمراء مع مقاطعة التساخير والإعانات العدلية لمدة أسبوع مع تنظيم وقفات احتجاجية أمام المحاكم يوم الأربعاء. أسبوع يتزامن مع تصاعد حالة الحنق في الوسط السياسي والمدني، على نحو المسيرة التي نظمتها شبكة الدفاع عن الحقوق والحريات نهاية الأسبوع المنقضي، على خلفية تزايد استهداف السلطة السياسية للفضاء العام وللحريات العامة وبالخصوص فرضها لمسار انتخابي بمقومات نزاهة ضعيفة، خاصة بعد رفض هيئة الانتخابات تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإرجاع ثلاثة مترشحين للسباق الرئاسي.
زر الذهاب إلى الأعلى