سياسيًا، لا حديث يعلو في تونس على نقاشات الانتخابات الرئاسية المنتظرة في خريف هذه السنة. يسارع الجميع بالإعلان والتكهن والنقد وهو اهتمام شبه مفقود فيما سبق من انتخابات في البلاد تلت تاريخ الخامس والعشرين من جويلية 2021.
ليس من الصعب استنتاج سبب الاهتمام المتصاعد في مقابل التجاهل والسخرية الواسعة التي قُوبلت بها الانتخابات المحلية والتشريعية التي سبقتها بين سنتي 2022 وبدايات 2024، إذ لا صوت مؤثر في تونس منذ حوالي سنتين ونصف إلا صوت الرئيس قيس سعيّد ولا تأثير وصلاحيات في البلاد إلا للرئيس. كذلك لا قدرة على التغيير وفق الدستور الذي كتبه الرئيس الحالي ومُرر في استفتاء شعبي سنة 2022 إلا للرئيس فكيف لا تكون الانتخابات الرئاسية محل نقاش وجدل واهتمام في تونس حتى قبل ثبوت موعدها واتضاح شروط الترشح لها.
قد يبدو هذا المعطى غريبًا أو غير منطقي أي أن يُسيطر استحقاق انتخابي غير واضح الشروط والتوقيت والمعالم على المشهد العام في بلد ما، لكنه كذلك في تونس، التي يعلم أهلها والمتابعون لشؤونها أن منصب رئيس الجمهورية، وفق الدستور الحالي، يحظى بصلاحيات هائلة تتجاوز صلاحيات الرئيس في عديد الأنظمة الرئاسية حول العالم.
في هذا السياق تحديدًا، تتالت إعلانات شخصيات تونسية عن ترشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد، من أبرزها الناشط السياسي الصافي سعيد، الوزير الأسبق المنذر الزنايدي، رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي (ترشيح من حزبها وهي داخل السجن)، رئيس حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي وأمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي (ترشيح من حزبه وهو داخل السجن) وغيرهم، وذلك رغم عدم فتح باب الترشحات رسميًا وعدم توفر تاريخ واضح لذلك.
جدل حول شروط الترشح للانتخابات الرئاسية وموعدها
ينص الدستور التونسي لسنة 2022 في بابه الرابع وهو باب الوظيفة التنفيذية أن رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة، وفي قسمه الأول يقدم بعض الشروط للترشح لمنصب رئيس الجمهورية وهي “أن يكون دينه الإسلام وأن الترشح حق لكل تونسي أو تونسية غير حامل لجنسية أخرى مولود لأب وأم وجد لأب وجد لأم تونسيين وكلهم تونسيون دون انقطاع”.
كما ينص أنه يجب أن يكون المترشح أو المترشحة يوم تقديم ترشحه، بالغًا من العمر 40 عاماً على الأقل ومتمتعًا بجميع حقوقه المدنية والسياسية وأن المترشح يقوم بتقديم ترشحه لهيئة الانتخابات حسب الطريقة والشروط المنصوص عليها بالقانون الانتخابي.
منطلق الجدل أن القانون الانتخابي الحالي، وهو الذي سبق الاعتماد عليه لتنظيم الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، لا ينص على شروط الترشح الجديدة المدرجة في دستور 2022، وهذا ما حذرت منه عديد المنظمات المختصة في ملاحظة ومراقبة المسار الانتخابي في تونس وكذلك سياسيون ونشطاء منذ فترة. وكانوا دعوا أيضًا لتغيير القانون الانتخابي مبكرًا ليلائم الدستور الجديد وذلك قبل الدخول في السنة الانتخابية، أي سنة 2024، لتجنب تغيير ما أسموها “قوانين اللعبة” في ذات سنة إجراء الانتخابات.
في البداية، أكد أعضاء من هيئة الانتخابات في مناسبات عديدة أن تعديل القانون الانتخابي ضروري فعلًا، لكن في 6 مارس/آذار 2024، وخلال مقابلة جمعت الرئيس الحالي قيس سعيّد برئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر، لوّح سعيّد بغير ذلك، قائلًا في بيان للرئاسة “ليس هناك أيّ مبرر للحديث عن إدخال تنقيحات على القانون الانتخابي.. دستور 25 جويلية 2022 قد جاء بشروط جديدة للانتخابات الرئاسية.. وقواعد الدستور أعلى درجة من القواعد التي تتضمنها أحكام دونه مرتبة”.
إثر ذلك، توقفت هيئة الانتخابات عن الحديث عن أي تنقيح للقانون الانتخابي وتحولت نحو إصدار قرار ترتيبي من قبلها سيتضمن الشروط الجديدة للترشح كما وردت في دستور 2022، ولكن دائمًا دون تحديد تاريخ إجراء الانتخابات أو موعد إصدار هذا القرار الترتيبي إلى حد الآن (هنا جدل آخر عن سلامة تنقيح قانون بقرار ترتيبي).
في المقابل، كانت هيئة الانتخابات قد حددت موعد الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 تقريبًا 8 أشهر قبل انعقادها وهو ما طرح تساؤلات عدة حول فرضية تخليها عن إحدى صلاحياتها، خاصة بعد إعلان رئيس الهيئة، في 23 أفريل 2024، أن “التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور أمر دعوة الناخبين” وهذا الأمر يصدر من قبل الرئيس.
وفي البيان ذاته للهيئة، أشارت الأخيرة إلى أنها ستتجه لتغيير “شرطي السن والجنسية وشرط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية والخلو من الموانع.. وما يترتب عن كل ذلك من ضرورة إدلاء المترشح بنظير من صحيفة السوابق العدلية (البطاقة عدد 3)”.
وقد أوّل البعض هذا التغيير الأخير، ومنهم الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي، أنه “يعني ضمنيًا إشكالية ترشح عدد من السياسيين المعارضين الموقوفين في السجن حاليًا”. وفي هذا السياق أيضًا، كان الحزب الدستوري الحر (معارض) قد اعتبر تواصل سجن رئيسته بينما هي مرشحة للرئاسيات “سعيًا من السلطة إلى حرمانها من حقوقها المدنية والسياسية”، معتبرًا أن “القضايا في حقها ذات صبغة سياسية وتستهدفها لحرمانها من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة”. وفي بيان للحزب بتاريخ 14 أفريل الجاري، حذّر الحزب الدستوري الحر من التوجه “لإقرار شروط ترشح جديدة لم يتضمّنها القانون الانتخابي بهدف التضييق على الترشحات وإقصاء المنافسين”، وفقه.
وفي سياق متصل، ذهب الخرايفي إلى فرضية إضافة شرط الإقامة في تونس للتمكن من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة وأساسه القانوني في ذلك هو “تأويل موسع للقانون الانتخابي، فاقتراع الناخب في دائرته مرتبط بإقامته في الدائرة التي سيترشح فيها، وفي الانتخابات الرئاسية هناك دائرة وحيدة هي كل تراب الجمهورية التونسية”، وفق تقديره. ويضيف أن “هذا الشرط وإن تمت إضافته، فإنه سيكون غالبًا محل طعن أمام المحكمة الإدارية التي ستفصل هذه المسألة الشائكة”، كما وصفها.
لكن تأويله الأخير كان محل رفض واسع. يقول القاضي الإداري السابق أحمد صواب إن “فرض شرط الإقامة في الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس، إن تم، سيمس بحقّين دستورييْن، هما حق التنقل والحق في اختيار المسكن، معتبرًا أن من حق التونسيين الذين يعيشون خارج البلاد الترشح للانتخابات الرئاسية، وليس من حق السلطة أن تحدّد لأي كان مكان إقامة لم يختره.
ولفت صواب إلى أن القانون الانتخابي نصّ على أنّ ملف الترشح يقدّم من قبل المرشّح نفسه أو من ينوبه قانونًا، مع إدراج عنوان المترشّح وعنوان من ينوبه، مؤكدًا أنّ هذا القرار يمكن أن يستفيد منه خاصة المترشحون المقيمون حاليًا بالخارج وأيضًا المعارضون الموقوفون داخل السجون التونسية.
في الأثناء، تتصاعد الأصوات المنادية بعدم تغيير القانون الانتخابي وشروط الترشح خلال السنة الانتخابية ومن ذلك إمضاء العديد من النشطاء والشخصيات العامة في تونس على عريضة نشروها بتاريخ 21 أفريل 2024، مطالبين “بعدم المساس بالمسار الانتخابي بإضافة معايير جديدة تغيّر شروط الترشح وعدم التضييق على نشاط المترشحين وعدم استغلال مقدرات الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر للدعاية الانتخابية وعدم حرمان أي مترشح لم يصدر في شأنه حكم بات مرفوق بحكم تكميلي يحرمه من حقوقه المدنية من الترشح للانتخابات الرئاسية بأي شكل من الأشكال”.
زر الذهاب إلى الأعلى