ثقافة

زيتونة من فسيفساء… تونس تنبض من جديد في أوساكا 2025

لوحة الطيب زيود: فسيفساء ذاكرة، فن مقاومة، وشهادة على حضور تونس الإبداعي في المحافل العالمية

في المعرض الدولي أوساكا 2025، لم تكن مشاركة تونس مجرد حضور رمزي في جناح ضيق يعرض المنتجات التقليدية، بل كانت شهادة فنية حيّة، بلغة بصرية نافذة، حملها الفنان التشكيلي الطيب زيود في لوحة فسيفسائية عملاقة تُجسّد شجرة زيتون عتيقة من أرض الهوارية… شجرة ليست كبقية الأشجار، بل ذاكرة ضاربة في عمق ألف سنة، حوّلها الفنان من عنصر نباتي إلى أيقونة حضارية.

لوحة بحجم وطن…
في عمل فني ضخم، تبلغ أبعاده 4.5 أمتار في 7 أمتار، اختار زيود أن يترجم شجرة زيتون تونسية إلى لغة الفسيفساء، ليس باعتبارها مجرد نبات زراعي، بل باعتبارها كيانًا رمزيًا يتجاوز الزمن: رمز للسلام، للخصوبة، للثبات وللجذر العميق في الأرض، تمامًا كما هو حال الهوية التونسية.
إنها ليست لوحة زخرفية تزيّن جدارًا، بل جدارية ذاكرة، اختزلت تاريخًا، واستعادت مشهدية علاقة الإنسان التونسي بأرضه، وبالشجرة التي عاش في ظلها وقاوم الاحتلال، وكتب تحتها القصائد، ودفن تحتها أسراره.

فسيفساء… ولكن ليست كما عهدناها
زيود لم يُعيد إنتاج الفسيفساء بالطريقة التقليدية، بل قادها نحو مستوى جديد من التجريب البصري، حيث تخلّى عن الجمود، وأدخل الحيوية والنعومة على الحجر. يقول أحد النقاد: “لم تعد الفسيفساء صلبة في يديه، بل باتت قابلة للانسياب، كأنها نُسجت من حرير أو خيوط ذهب”.
أعمال زيود منذ سنوات تُثبت أن الفن ليس متحفًا، بل كائنًا حيًا يُنقّح ذاته باستمرار. وهو هنا، في أوساكا، يقدّم تونس ليس كأمة ماضية، بل كمجتمع حيّ، يجدد فنه دون أن ينسلخ عن ذاكرته.

عندما تصبح اللوحة مشروعًا ثقافيًا
اللوحة، وإن بدت في ظاهرها عملاً تشكيليًا، هي بيان ثقافي وسياسي ناعم. فهي تعيد طرح سؤال: كيف نحضر في العالم؟
الجواب الذي اقترحه الطيب زيود هو: نحضر بما نُبدع، لا بما نُكرر. نحضر حين نكون أمناء على جذورنا، وجرئيـن في تعبيرنا عنها بأساليب حديثة.
إن الفسيفساء هنا ليست مجرّد فن تراثي، بل تحوّلت إلى وسيط نقدي وإبداعي يُمكنه أن يُعبّر عن الإنسان الحديث، المعولم، المتنوع، الذي يحتاج إلى جذور دون أن يختنق بها.

زيود… حارس الجمال ومُجدِّد المادة
من يعرف أعمال زيود، يدرك أنه لم يكن مجرّد تقني في تركيب الأحجار، بل فنان صاحب رؤية. طوّر مفهوم الفسيفساء، أدخل عليها الألوان الطبيعية، والرموز الإنسانية، والخط العربي، والملاحم الشعبية، وركّب بينها كما يركّب شاعرٌ قصيدته.
فهو ليس صانع لوحات فقط، بل حارس لذاكرة بصرية، يُعيد تشكيلها بتقنيات معاصرة دون أن يُفرّط في المعنى أو الجذر.

شجرة الزيتون… تونس تختصرها الطبيعة والرمز
اختيار شجرة الزيتون لم يكن اختيارًا عشوائيًا. فهي شجرة مباركة، مذكورة في القرآن، وجذورها تضرب عميقًا في الأرض التونسية. كما أنها تُختصر فيها حكمة القرون، وخصوبة الأرض، ومقاومة الشعب.
وعندما تُجسّد هذه الشجرة في معرض دولي مثل أوساكا، فإنها تحمل اسم تونس بلغة الفن، وهي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة، لأنها تخاطب الحواس والمشاعر.

ختامًا… من أوساكا إلى تونس: دعوة إلى مراجعة سياسات التمثيل الثقافي
ما قدمه زيود في أوساكا ليس مجرد نجاح فردي، بل هو دعوة جماعية إلى إعادة النظر في الطريقة التي تُشارك بها تونس في التظاهرات العالمية.
فلم يعد كافيًا عرض الأواني والمطرزات فقط، بل يجب الرهان على الإبداع التونسي المعاصر، القادر على محاورة الآخر بلغة العصر، دون فقدان نَفَس الهوية.
اللوحة التي شدّت أنظار زوار المعرض الدولي، هي صرخة جمال ووعي، تقول بأن تونس ليست مجرد صفحة من الماضي، بل فنان من الحاضر، وفاعل في المستقبل.

ملاك الشوشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى