رأي: حتى لا ينقض التونسيون غزلهم أو في شروط الوطنية التونسية الجامعة
بقلم د. عبد الستار رجب (أستاذ علم الاجتماع بجامعة قرطاج) – أعتُبِر العالم العربي في أدبيات سياسية واستشراقية كثيرة وعديدة عصيّا على الديمقراطية. ونظّر كثيرون لاستحالة أن ينعم العرب بالديمقراطية. وأنّهم بفعل عوامل هيكلية وسياقيّة لن يقدروا على مغادرة مربّع الاستبداد والخمول الحضاري لتعذّر بناء تجربة لهم في الحكم الرشيد تقوم على القانون والمؤسسات والشفافية والمحاسبة وتصان فيها الحقوق والحرمات وتوزع فيه الخيرات بعدل وانصاف. وارتجّ على أصحاب هذا الموقف ما عاينوا من قيام عدد من الشعوب العربية سنة 2011 ينشدون ما رأوا عند غيرهم من شعوب الأرض من بركات الحرية والديمقراطية. وزاد من اضطراب موقفهم ما حصل من تقدّم الانتقال الديمقراطي في تونس.
ورغم ما تحرزه تجربتنا من تقدّم محدود إلا انّها تتعرّض لصعوبات حقيقية وتحديات نوعية إمّا بفعل التقاء موضوعي لظروف سيئة تحصل في بيئة التجربة. أو بفعل إعاقات مقصودة من أطراف لا يسرّها أن ينجح التونسيون في اجتراح نموذج للانتقال يتعايشون فيه على اختلافهم ويشتركون فيه على تنوعهم ويتضامنون فيه على تعدّدهم. وقد أفهم سعي المغاير ديمقراطيا عربيّا كان أو غير عربي إلى اجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس على صعوبة في قبول ذلك سياسيّا واستراتيجيا واستحالة قبول ذلك أخلاقيّا؛ ولكنّي ما أردت أن أفهم سعي ابن أو ابنة وطني في ذلك.
إنّ من الظواهر السياسيّة المعقّدة، هذا الذي يحصل بأيدي تونسية لوأد تجربتنا في بناء نموذج يقطع مع الاستبداد والفساد والاقصاء والالغاء. وهو ما لم نجد له نظيرا فاقعا في تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة سواء التي حصلت في أوروبا الشرقية والوسطى أو في افريقيا أو في امريكا اللاتينية. كل تجارب الانتقال التي نجحت في الموجة الأولى أو في الموجة الثانية أو في الموجة الثالثة عمّدت نجاحها باتّباع استراتيجية استيعابية ادماجية تجمع الفرقاء من المنظومة القديمة التي قامت عليها ثورات الانتقال بالقوى التي أتت بها الثورات. ويفيدنا فحص هذه التجارب أنّ الفرقاء فيها اشتغلوا رغم تناقضاتهم وبتفاوض قاس لأبعد الحدود على بناء تعاقدات سياسيّة وتسويات تاريخية تقطع مع أخلال حقبة الاستبداد في باب النموذج السياسي والدستوري وفي باب الاقتصاد السياسي. ولكنّنا للأسف لا نرى مثل هذا في تجربتنا. فغياب المرافقة المخلصة وتأخر التعاون السياسي على اتمام ما بدأناه من هذه التعاقدات والتسويات يجعل مسعى استهداف الانتقال التونسي أمرا متكرّرا لا يكاد يخفت صداه المربك حتى يستعيد صياحه من جديد. لا أريد ان أبحث عن أسباب ذلك في التقاءاتٍ بين داخل وخارج على وجاهة هذه الفرضية لأنّي اعتبر أنّه متى عالجنا أصل المشكل بيننا كأبناء عائلة واحدة استحال حينها على الدخيل أن يفعل فعله أو يبلغ قصده. ولا أريد ان الفت الانتباه إلى أنّ سياقاتنا الانتخابية على عظمة ما تؤشّر عليه من تحولات عميقة نحو تثبيت منزلة المواطن إلا أنّها تخلّف في نفس الوقت تصدّعات وكسور وتوفّر بيئة خصبة لهذا الاستهداف. إنّ غياب الأطروحات السياسية الجادّة والبرامج الاقتصادية المبنية على واقعية علميّة تفسح الطريق لصعود النزعات الشعبوية السياسوية والاقتصادوية وتُسكنها في مربعات هيكلية مؤسساتية ودستورية تزيد من مفاقمة صعوبات الانتقال الديمقراطي.
لقد ألحّت عليّ في الفترة الأخيرة وبأثر من الأحداث التي حصلت من دعوات للإعتصام والاطاحة بالمقومات المؤسساتية والدستورية أسئلة أردت أن أشارككم فيها التفكير والتداول. منها مثلا، هل يحق للتونسيين أن يشعرهم هذا الاستهداف بالقلق على تجربتهم الديمقراطية الوليدة؟ كيف استطاع الحدث الثوري بمسار الاصلاح الدستوري والسياسي أن يضمن لمكونات النظام القديم موقع الشريك في البناء الديمقراطي الموعود ولم تقدر بعض مكونات هذا النظام القديم أن تقبل بهذه الشراكة بل إنّنا نراها تعمل باستدامة مخلّة وبإصرار فيه زهو على الإطاحة بتجربة الانتقال نحو الديمقراطية. ومن المفارق أنّها تفعل ذلك من الموقع الذي منحها اياه النظام الدستوري والسياسي والقيمي للثورة حقا لا تفضلا؟ لقد عبّر الشعب، باعتباره فئة العموم وبانخراط واسع مع القوى التي صعّدتها الثورة وغيرها من القوى التي استظلّت بدستور 14 جانفي، عن تطلع أصيل للكرامة وعن تشوّف عميق للديمقراطية ما يعني أنّ هذا العموم يحمل في جوّانيته شروط امكان تحقيق الديمقراطية والكرامة. . في المقابل رأينا كيف أنّ بعض القديم الذي تهيكل سياسيا بموارد اكتسبها من سلوك سياسي ومالي ريعي ورثه عن المنظومة القديمة وأحيانا بتقاطعات ملتبسة مع قوى تختلف معه في المشارب الايديولوجيا وتلتقي معه في المغارب الاستئصالية، رأيناه كيف يناكف الديمقراطية من داخل مؤسساتها ويوجّه سهامه إليها وبأدواتها. فأردت أن أطمئنّ على مدى توفر فرص تطور القديم نحو آفاق البناء الديمقراطي وهل سيكون بمقدور المستعصي من هذا القديم أن يصبح ديمقراطيا أو في الحدّ الأدني حاملا “لا عرضيا Asymptomatique ” لشروط الامكان الديمقراطي؟ وما الذي يتطلبه الأمر حتى يتحوّل هذا الفريق المستعصي إلى أفق الانخراط في مقتضيات الامكان الديمقراطي؟ ما الذي يستوجب على المجموع الوطني أن يقدّمه بين يدي هذا الاستحقاق العمومي العاجل حتى لا نستمرّ في اهدار فرصة الانتقال؟
علّمتنا تجربة الانتفاض الشعبي الذي حصل في موجة الربيع العربي أنّ الشعوب وهي تختزن قهرها على تطاول في الزمن تقوم بتحويل عناصر ذلك الاكراه القمعي إلى جوهر أوّلي تتولّد منه قدرتها على إزاحة المستبدّ. ما يعني انّ المستضعف والمقهور في لعبة موازين القوى المتبدّلة حين تتوفر شروط تحقيق امكان نقلته من موقع الاستضعاف إلى موقع الاستخلاف والاستبدال تكون فرصه في النجاح اكبر من فرص المستبدّ حين يخسر كرسيّه. النجاح في تعميدِ المقهورِ تجربتَه بقيم العدل والاعمار والتضامن متعيِّنَة أكثر. بينما يُطرح السؤال في بعده الانطولوجي والاجرائي بالحاح على المستبدّ، هل ينجح في تعميد تجربته بقيم التواضع والاعتراف وطلب الصفح والتعهّد بتوفير شروط المراجعة وقبول الاندماج؟ .. الموقعان مختلفان. وتتحكّم فيهما عوامل الاعتمال النفساني المعياري والنوازع اكثر من التقدير المنطقي والموضوعي؛ لذلك يبدو تحوّل المستبدّ أصعب واعقد من تحوّل المقهور. فالمستبدّ يتحوّل في سياق مربع الخسارة النفسية والرمزية فضلا عن الخسارة المادية. والمقهور يتحوّل في سياق مربّع الربح النفسي والرمزي والمادّي. لعبة الربح والخسارة هي التي تفسّر الشحنة الانفعالية التدميرية المبثوثة في أرجاء هذا الصراع.
تطلّب الأمر بالنسبة إلى تجربة الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية مثلا أن تقوم النخب الأوروبية بجهد نوعي في عقلنة هذا الصراع بين القديم والجديد ومأسسته وتصريفه من أجل بناء أوروبا الديمقراطية. فرأينا على سبيل الذكر لا الحصر هابرماس يتحدث عن الثورة المستدرَكَة Eine nachhholende Revolution حين درس انتقال اوروبا الوسطى والشرقية إلى الديمقراطية. ورأينا كيف تمّ تحليل بنية اليسار واليسار الليبرالي في اوروبا الشرقية والبحث في مدى توفر شروط بناء انتقال اوروبا إلى الديمقراطية. وتمّ التأسيس لمفهوم الهوية الأوروبية الجامعة التي لا تنفصل مطلقا عن مسار دمقرطة كل أوروبا بغربها ووسطها وشرقها. وكيف أنّ هذه الهويّة لا يجب ان تُقدّ من نسيج اثني او مضمون ما قبل سياسي أو بنوازع استعلائية. وانّها في الأساس تُنسج بناءً على أصل من الدستور والمواطنة. وأنّها ليست معطى سابق. وإنّما هي خلاصة ومنتهى دينامية علائقية تحريرية للمواطنين يطلق عليها هابرماس “الوطنية الدستورية” أي الفخر بقوة مؤسسات الدولة التي تستمدّ شرعيتها أساسا من الإجراءات القانونية ومن التضامن المجرّد الذي يقوم على وسائط قضائية بين مختلفين ومتعدّدين. فما الذي فعلته نخبتنا الموقّرة من اجل تحصين الانتقال إلى الديمقراطية في التجربة التونسية؟ وهل تستطيع ان ترتفع بالصراع إلى أفق التنافس؟ وهل يتاح لها أن تدمج في السيرورة القائمة والتي يغلب عليه سيلان الغريزة السياسية وعلوّ الهذيان الخطابي، كل المختلفين والمتنوعين والمتعدّدين على أساس هوية ديمقراطية وطنية جامعة؟ لا أخفي عليكم أنّني أشعر بقلق عميق حيال ما يحصل ما لم نستدركه بسعي مخلص لعقلنة الصراع الدائر في بعض مؤسسات النظام السياسي وعلى هامشها. وما لم نعمل على الابتعاد به عن حدود الانجراف الاجتماعي والسياسي. لا اخفي عليكم أيضا أنّي أشعر بخوف، خوف الحريص المشفق من أن نجد انفسنا يوما بفعل هذا التنافي في وضع من وصفهم جورج أرويل في إحدى رسائله التي تحمل عنوان” أمام انفك،In Front of Your Nose ” أولئك الذين يتجاهلون مقتضيات الواقع ويسبحون ضدّ منطق الأشياء ويستمرون في تزييف الواقع بكل جراة ولوقت طويل ولكن حين يصطدمون بحقيقة هذا الواقع الصلبة ينتبهون إلى أنّ الوقت قد فات وأنّ التدارك اصبح في حكم المستحيل. استدعي أورويل حتى لا نقف جميعنا في هذا الموقف بعد ان نضيّع فرصة الانتقال إلى الديمقراطية ونستفيق على ركام اوجدناه بأيدينا حين لم نتجاوز في النّظر أبعد من أنوفنا.