في أمسية اختلط فيها الطرب الأصيل بنبض الذاكرة الشعبية، افتتحت الفنانة التونسية درة الفورتي فعاليات الدورة 49 لمهرجان بلاريجيا الدولي، وذلك على ركح المركب الثقافي عمر السعيدي بجندوبة، في ظل غياب المسرح الأثري الذي طالما احتضن أبرز عروض المهرجان لعقود.
بصوتها الدافئ وإحساسها المرهف، قادت درة الفورتي جمهورها في رحلة موسيقية راوحت فيها بين المقامات الطربية الكلاسيكية والموروث الشعبي التونسي، فكانت كل أغنية بمثابة جسر يربط الحاضر بعبق الماضي. وما إن انطلقت نغمات العود حتى تحوّل فضاء العرض إلى كورال جماعي تفاعل فيه الجمهور بكل جوارحه، مرددًا الأغاني عن ظهر قلب، في مشهد عبّر عن توق المواطن للفرح والانغماس في لحظات فنية أصيلة.
وفي تصريح مقتضب عقب العرض، عبّرت درة الفورتي عن سعادتها الكبيرة بتكليفها بافتتاح هذه الدورة المميزة، مثمّنة المجهودات التنظيمية ومتوجهة بالشكر إلى إدارة المهرجان والجمهور الذي قالت إنه “يصنع المعنى الحقيقي للفنّ حين يندمج فيه بهذا الشكل”.

لكن خلف هذا النجاح الفني، علت من جديد أصوات الجمهور تطالب بحزم بإعادة إحياء المسرح الأثري ببلاريجيا، الذي غاب عن هذه الدورة لدواعٍ تتعلق بسلامة الزوار، حسب ما جاء في بلاغ سابق للهيئة المديرة. مطلب لم يكن وليد اللحظة، بل هو نداء متكرر في كل دورة تقريبًا، يعكس إصرارًا مدنيًا على الحفاظ على روح المهرجان وموقعه الطبيعي الذي يجسّد لقاء التاريخ بالفن.
ويُعدّ مهرجان بلاريجيا من أعرق التظاهرات الثقافية في الشمال الغربي التونسي، بل ومن أبرز ملامح المشهد الثقافي الوطني، حيث انطلقت أولى دوراته منذ أكثر من أربعة عقود، محتفيًا بالموسيقى والمسرح والفنون من مختلف المشارب. وقد مثّلت كل دورة فرصة لتعزيز التبادل الثقافي وخلق حوار بين التراث المحلي والابتكارات الفنية الجديدة.
رغم التحديات، تستمر هذه التظاهرة في التأقلم مع السياقات المتغيّرة، محافظة على وهجها بفضل تظافر جهود فنانين مبدعين وجمهور وفيّ، لا يملّ المطالبة بتوفير البنية التحتية التي تليق بهذا الإرث الثقافي.
هل تكون الدورة 49 بداية لعودة الروح إلى المسرح الأثري؟ سؤال يطرحه محبو المهرجان بصوت عالٍ، على أمل أن تُترجم المطالب المتكررة إلى قرارات فعلية تعيد للمكان رمزيته، وللمهرجان ألقه التاريخي.
في انتظار ذلك، يبقى مهرجان بلاريجيا وعدًا متجدّدًا للفن، وشهادة على أن الثقافة لا تزال تحظى بمكانتها في وجدان التونسي، مهما كان موقعها أو الظرف الذي تُقام فيه.
ملاك الشوشي
زر الذهاب إلى الأعلى