حضور فلسطين في برامج المهرجانات الصيفية التونسية لسنة 2024 لم يكن ترفًا ثقافيًا أو مماراةً أو مباهاةً أو تشدقًا بالقضية الفلسطينية وجعلها موضة ثقافية عرضية، فقد تحولت منذ نكبة 1948 إلى بذر روحي وعاطفي وعقلاني تتوارثه أجيال التونسيين وتنثره في حقول اللغة لتينع فلسطين مع كل فصل ويسافر لقاحها في العقول والقلوب من الشمال إلى الجنوب.
هنا في تونس لا يوجد اختلاف حول قضية الشعب الفلسطيني الذي سلبت أرضه على مرأى من العالم. فالكل هنا مجمع على أنها قضية إنسانية عادلة لا ريب فيها، تنبت على الشفاه كما ينبت النخيل الباسق في أعالي الجنوب، وقد صنعت لها أنهارًا خفية في القلوب، وتحولت إلى غيم مطير بالكلمات الملتاعة حول ما يحدث في كل مرة فوق أرض “أم البدايات” فلسطين.
وتضامنًا مع غزة منذ اندلاع “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، تحركت كل تونس وكامل شعبها في اتجاه إيصال صوت فلسطين إلى كل الأنحاء والتكاتف مع كل أحرار العالم من أجل دحر العدو الصهيوني ولو بكلمة، والكلام ينفذ حيث لا تنفذ الإبر.
وإلى جانب المظاهرات في الشوارع والساحات العامة ومؤسسات التعليم وغيرها، انبرى أهل الثقافة والفنون وكل النخب المثقفة إلى خلق دينامية فلسطينية في المشهد الثقافي التونسي فحضرت الفنون الفلسطينية والتراث الفلسطيني والذاكرة الفلسطينية والشعر الفلسطيني، وتحولت أروقة الثقافة التونسية إلى منصات للنقاش الفكري والفلسفي حول ما يحدث الآن في الأراضي الفلسطينية وما حدث في الماضي. كان لا بد من ترتيب الذاكرة من جديد.
فلسطين هذه الأيام هي سردية مشتهاة للأنشطة المهرجانية الصيفية بتونس حيث تحضر العزيزة فلسطين بكامل زخمها مكرمة منعمة. بل إن هذه المهرجانات والتظاهرات الترفيهية تأتي في تواصل وتناغم وتنافذ مع أنشطة سابقة وتتمة لأحداث وأفعال ثقافية عاشتها تونس منذ أكتوبر الماضي.
فمهرجان الحمامات الدولي، وهو ثاني أهم تظاهرة بعد مهرجان قرطاج الدولي، ينتصر للقضية الفلسطينية من خلال برمجة عرض الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي، وهي مغنية وعازفة فلوت بدأت حياتها الفنية في الغناء في سن 14 سنة وأكملت دراستها في العزف على الفلوت الكلاسيكي في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في فلسطين.
حفل ناي البرغوثي احتضنه مسرح الهواء الطلق بمدينة الحمامات يوم 14 جويلية 2024، حيث ترددت جملة “فلسطين حرة من النهر إلى البحر” كما رفع العلم الفلسطيني عاليًا وسط الجمهور التونسي.
ناي البرغوثي كانت صوت فلسطين المثقل بالألم والشجن والحزن وقد حاولت من خلال حضورها البهي نقل مشاعر خاصة زاوجت فيها الحزن بالأمل.
كما برمج مهرجان الحمامات يوم 15 جويلية 2024 عرض المجموعة الموسيقية الجزائرية “لاباس” ذات الصيت العالمي بقيادة الفنان عازف الغيتار والمغني “نجيّم بوزويل” الذي غنى من التراث الأمازيغي الثري والأهازيج الإفريقية، لكنه خصص أيضًا مساحة هامة لفلسطين كتحيّة من الفرقة الملتزمة بقضايا الشعوب، فغنى وتحدث مطولًا عن الاحتلال الإسرائيلي القاسي والغاشم، وعن معاناة الشعب الفلسطيني والتهجير الذي تعرض له منذ عقود ولا يزال، وترحم الفنان على أرواح شهداء غزة مشيرًا إلى أنّ احتلال 75 سنة سوف يزول يومًا ما بفضل المقاومة والثبات على مبدأ الحرية والاستقلال لفلسطين.
كذلك يقدّم مهرجان صفاقس الدولي في دورته 44، الذي يحتضنه فضاء سيدي منصور بعاصمة الجنوب التونسي، ضمن برمجته الثرية سهرة خاصة بفلسطين يوم 28 جويلية/يوليو 2024 تحت عنوان “إلى فلسطين”.
ومن جهته، يقدم المهرجان الصيفي لمدينة أريانة في دورته 18، والتي تمتد من 23 جويليةإلى 4 أوت 2024، سهرة الفن البديل أو الفن الملتزم التي ستحييها الفنانة لبنى نعمان مساء 26 جويلية 2024، وستخصص نعمان جزءًا من سهرتها لفلسطين تحيةً واحتفاءً بالأغنية الفلسطينية.
مدينة المناجم قفصة، بأقصى الجنوب الغربي التونسي، يكرم مهرجانها الدولي فلسطين بتخصيصه ضمن برمجته لهذه الصائفة سهرة تحييها “فرقة الكرامة” يوم 9 أوت 2024.
ودومًا بالجنوب التونسي، فإن مهرجان جربة أوليس الدولي، الذي تحتضنه كل صائفة جزيرة الأحلام جربة بالتعاون مع مؤسسة سيدة الأرض، خصص سهرة لفلسطين يوم 7 جويلية 2024، أحياها الفنان الفلسطيني الشاب “نسيم الطوباسي”.
أما “مهرجان بلاريجيا الدولي” بولاية جندوبة بالشمال الغربي التونسي، فقد نظم على هامش الدورة الحالية مجموعة من الندوات الفكرية خصص واحدة منها للقضية الفلسطينية وقد احتضنها المركب الثقافي عمر السعيدي بجندوبة يوم 20 جويلية 2024، وتم خلالها التذكير بأطوار القضية الفلسطينية والمستجدات الآنية وما يحصل الآن في غزة من عدوان وتهجير على مرأى من العالم.
كما برمج مهرجان دقة الدولي بولاية باجة، الذي رفع في مدرجه الروماني العتيق العلم الفلسطيني في أكثر من سهرة خلال صائفة 2024، سهرةً خاصة بفلسطين يوم 30 جوان 2024 أحياها الفنان ياسر جرادي صحبة الفنانة الفلسطينية رُلى عازر، وكانت سهرة استمتع فيها الجمهور بالتراث الغنائي والموسيقى الفلسطينية.
ومن المهرجانات التونسية العريقة التي كرمت فلسطين بأسلوب متميز وبه خصوصية، نجد مهرجان بوقرنين بضاحية حمام الأنف الذي تنطلق فعالياته يوم 26 جويلية/يوليو وتتواصل إلى غاية 6 أوت 2024، وذلك ببرمجة عرض لمجموعة “أجراس” للفنان الملتزم وأستاذ الفلسفة عادل بوعلاق وذلك خلال سهرة 26 جويلية 2024.
هذه عينة من تظاهرات وسهرات صيفية تونسية تكرم فلسطين وتقدم موروثها الثقافي وتذكر بالمظلمة التي تعرضت لها منذ عشرات السنين. وفي ذلك اعتقاد بأن الثقافة والفنون هي سلاح الشعوب للدفاع عن حصونها ووجودها.
زر الذهاب إلى الأعلى