الطلاق في تونس: بين النصّ القانوني والتحوّلات الاجتماعية وتأثيرها على الأسرة

لم يعد الطلاق في تونس حدثًا عابرًا أو حالة استثنائية تُروى همسًا، بل تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية مركّبة تعكس تحوّلات عميقة في بنية الأسرة وفي منظومة القيم والعلاقات داخل المجتمع. فالطلاق، وإن كان إجراءً قانونيًا منظّمًا بنصوص واضحة، يظل في جوهره تجربة إنسانية قاسية تتشابك فيها العواطف بالحقوق، والواجبات بالتوازنات الاجتماعية.
ومن خلال قراءة قانونية مدعومة بتجربة ميدانية، يقدّم هذا المقال مقاربة معمّقة لظاهرة الطلاق في تونس، بالاستناد إلى شهادات وتحاليل الأستاذ ربيع بن الأنور السبري، محامي لدى الاستئناف بتونس، للكشف عمّا لا يظهر عادة في الأحكام القضائية.

المحور الأول: أسباب الطلاق بين القانون والمجتمع
قراءة في الدوافع القانونية والاجتماعية
تشهد تونس ارتفاعًا ملحوظًا في نسب الطلاق، وهو ارتفاع لا يمكن فهمه بمعزل عن التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فملفات الطلاق المعروضة أمام المحاكم، وإن صيغت بلغة قانونية، تخفي وراءها أزمات إنسانية عميقة.
في هذا السياق، يوضح السبري أن من أبرز الأسباب المؤدية إلى الطلاق الزواج المبكر، معتبرًا أنه “يقلّل من نضج الأفراد واستقلاليتهم وقدرتهم على اتخاذ القرارات، ما يزيد من احتمال وقوع الخلافات ” اليومية التي تتحوّل سريعًا إلى نزاعات بنيوية.
ويضيف أن ضعف التواصل وقصر فترة التعارف قبل الزواج يؤديان إلى اكتشاف متأخّر لعدم التوافق، وهو ما يسرّع الانفصال.
لا يغفل المحامي عن أثر التدخل المفرط للأسرة، خاصة من العائلة الموسّعة، في تعقيد الحياة الزوجية، إذ يوضح أن “التدخل المفرط من الأسرة، وخصوصًا الحماة، قد يطال تفاصيل الحياة اليومية للزوجين”، وهو ما يؤدي، حسب تحليله، إلى تصعيد الخلافات وتحويلها من مشاكل عادية إلى نزاعات تهدد استقرار الزواج. كما يبرز السبري العامل التعليمي كعنصر مؤثر في استمرارية العلاقة الزوجية، ملاحظًا أن “الأزواج ذوي التعليم العالي يتمتعون بقدرة أكبر على إدارة الخلافات والتوافق على القرارات”، في حين أن انخفاض المستوى التعليمي وضعف الوعي القانوني والتربوي يسهمان في تفاقم النزاعات الزوجية.
أما بخصوص دور المرأة، فيؤكد المحامي أن خروجها إلى سوق العمل لم يرافقه دائمًا توازن داخل الأسرة، موضحًا أن “المرأة التي تعمل خارج المنزل تتحمل في عديد الحالات وحدها أعباء البيت وتربية الأطفال”، وهو ما يولد ضغطًا نفسيًا وشعورًا بالظلم قد ينتهي بالطلاق.
ويضيف السبري أن من بين الأسباب الأخرى الشائعة للانفصال: الخيانة الزوجية، الإهمال، عدم تحمّل المسؤولية الأسرية، وعدم إشباع الرغبات الجنسية، وهي عناصر يمكن أن تشكّل، متى ثبتت، أساسًا لطلاق الضرر أمام القضاء.
تقاطع الاجتماعي بالقانوني: متى تتحوّل الأزمة إلى دعوى؟
يوضح السبري أن الضغوط الاجتماعية، عندما تبلغ مستوى لا يُحتمل، تتحول إلى أسباب قانونية تُعرض أمام المحاكم. ففي هذا السياق يبيّن أن “الضغوط الاقتصادية مثل البطالة أو ضعف الموارد المالية غالبًا ما تؤدي إلى خلافات متكررة تهدد استقرار الزواج”، وهو ما يدفع الطرف المتضرر إلى اللجوء إلى القضاء طلبًا للطلاق استنادًا إلى أسباب مثل “الخلاف المستمر أو عدم القدرة على التفاهم”، وهي أسباب يعترف بها القانون التونسي.
كما يشير إلى أن التحولات القيمية، لا سيما مطالبة المرأة بالمساواة داخل الأسرة، تضع الزواج أمام اختبار حقيقي، إذ يلفت إلى أن “القانون التونسي يكفل للمرأة حق طلب الطلاق وحماية حقوقها المالية والأسرية”، غير أن هذا الإطار القانوني لا يفرض بالضرورة تغيير العقليات الاجتماعية، ما يخلق أحيانًا تصادمًا بين النص القانوني والواقع الثقافي.
تونس والغرب: اختلاف السياقات لا تشابه النتائج
في مقارنة تحليلية، يوضح السبري أن الطلاق في تونس يظل مرتبطًا بتشابك الاجتماعي بالقانوني، حيث تؤدي العائلة، والضغوط الاقتصادية، والتقاليد دورًا محوريًا في اتخاذ قرار الانفصال.
في المقابل، يرى أن دوافع الطلاق في المجتمعات الغربية غالبًا ما تكون مرتبطة بعوامل فردية، مثل السعادة الشخصية أو الانفصال العاطفي، في ظل تدخل عائلي محدود وإجراءات قانونية أكثر مرونة.
ويخلص المحامي، من خلال هذا الطرح، إلى أن فهم الطلاق في تونس يقتضي دائمًا قراءة مزدوجة قانونية واجتماعية، خلافًا للطرح الفردي الغالب في المجتمعات الغربية.

المحور الثاني: الإطار القانوني للطلاق في تونس
بين حماية الحقوق وتنظيم الانفصال
يوضح السبري أن الطلاق في تونس لا يُعترف به إلا بحكم قضائي، ويخضع لمسار دقيق يبدأ باستدعاء رسمي يضمن حق الدفاع، ثم يمر وجوبًا بمرحلة الصلح.
ويعتبر أن هذه المرحلة تمثّل حجر الزاوية في فلسفة المشرّع، إذ يُلزم قاضي الأسرة بمحاولة الإصلاح، خاصة عند وجود أطفال، مع اتخاذ قرارات وقتية تهمّ النفقة والحضانة والسكن وحق الزيارة.
وفي حال فشل الصلح، تفصل المحكمة في أصل الطلاق وآثاره، مع تنفيذ القرارات المتعلقة بالأطفال فورًا، حتى في صورة الطعن، حفاظًا على الاستقرار الأسري ومصلحة القُصّر.
ويؤكد السبري أن الاعتقاد السائد بأن الطلاق إجراء سريع هو تصوّر خاطئ، إذ قد تمتد القضايا من ستة أشهر إلى سنة أو أكثر، خاصة في النزاعات المتعلقة بالحضانة.

المحور الثالث: حماية الأطفال في نزاعات الطلاق
المصلحة الفضلى للطفل بين النصّ والتطبيق
يشدّد المحامي على أن القانون التونسي يجعل مصلحة الطفل معيارًا أسمى، لا يجوز التنازل عنه. غير أنه يقرّ بوجود صعوبات عملية، أبرزها ضغط الملفات وقلة التكوين النفسي المتخصص لدى القضاة.
ويشير إلى أن القرارات غالبًا ما تُتخذ استنادًا إلى تصريحات الوالدين أو الوضع القائم، دون تقييم نفسي معمّق، رغم أن التشريع يسمح بمراجعة هذه القرارات متى ثبت تعارضها مع مصلحة الطفل.
أما على أرض الواقع، فيؤكد السبري أن الأطفال بعد الطلاق يواجهون تحديات قاسية: نزاعات متواصلة بين الوالدين، عدم استقرار معيشي، تأخر النفقة، وتنقّل دائم، ما يترك آثارًا نفسية عميقة قد تمتد إلى مرحلة البلوغ.
مفاهيم خاطئة تصطدم بالواقع القانوني
من واقع خبرته، يلاحظ السبري أن غالبية الناس يجهلون التعقيدات الحقيقية للطلاق.
فكثيرون لا يدركون أن طلاق الإنشاء يترتب عنه تعويض عن الضرر وجراية عمرية، وأن الحضانة تُمنح غالبًا للزوجة مع إلزام الطرف الآخر بمنحة السكن. كما يجهل البعض أن عدم دفع النفقة قد يؤدي إلى تتبعات جزائية تصل إلى السجن، وأن الطلاق لا ينتهي بالحكم، بل تبدأ بعده التزامات طويلة الأمد.

الطلاق في تونس ليس مجرّد مسألة قانونية، بل تجربة إنسانية واجتماعية معقّدة تتجاوز جدران المحاكم. وبين نصوص قانونية متقدمة وتحولات اجتماعية متسارعة، يظل التحدي الحقيقي هو إدارة الانفصال بأقلّ الأضرار الممكنة، خاصة بالنسبة للأطفال.
وكما تكشف شهادة الممارسة اليومية، فإن الوعي بتعقيدات الطلاق يظل الخطوة الأولى نحو عدالة أكثر إنسانية، وأسرة أكثر وعيًا، حتى في لحظة الانفصال.
ملاك الشوشي




