تحتل تونس المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة في العالم لخطر الجفاف وندرة المياه، بحسب تقرير صادر في شهر مارس 2024 عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية. فالتغيرات المناخية التي يعرفها العالم باتت ملامحها واضحة في بلد على ضفة المتوسط وهو المنطقة الأكثر حساسية لهذه التغيرات التي تعرفها الكرة الأرضية.
“تونس متواجدة في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي يعرف ارتفاعًا في درجات الحرارة أكثر بـ20 بالمائة من المتوسط العالمي، وهو ما يجعلنا عرضة للتغيرات المناخية التي تهدد البيئة والاقتصاد”، تقول نسرين شحاتة رئيسة المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية لـ”الترا تونس”.
وتضيف: “تتجلى انعكاسات التغيرات المناخية في أهم القطاعات وهي الموارد المائية والإنتاج الزراعي وتوازن النظم البيئية الطبيعية إلى جانب السياحة والصحة، فقد عرفت تونس ارتفاعًا في الحرارة بـ1.4 درجات بين 1950 و2020، وانخفاضًا في معدلات الأمطار التي تقلصت بين 10 و20 بالمائة، وهي أرقام لن تتحسن بل العكس”.
وتشدد الدكتورة شحاتة على أنّ نصيب الفرد من الماء أقل من 400 متر مكعب لكل ساكن وهو رقم يشير إلى أننا تحت خط الفقر المائي بعد أن أصبحت فترات الجفاف أطول، وهو ما ينعكس مباشرة على الإنتاج الفلاحي الذي سيواصل تقلصه ليصل إلى 10 وحتى 30 بالمائة حتى سنة 2050 بسبب هذه التغيرات المناخية. فخسارة الزراعات الكبرى كالقمح والشعير ستنعكس مباشرة على المواشي التي سيتقلص عددها، حسب توقعاتها.
وتؤكد رئيسة المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية ضرورة الانتباه أيضًا إلى ارتفاع مستوى البحار، ففي تونس تمتد السواحل على طول 700 كيلومتر، وهي مهددة بارتفاع نسبة المياه ليصل إلى ما بين 20 و50 سنتيمترًا في أواخر هذا القرن، وهو ما يهدد سواحلنا وجزرنا على غرار جزيرتيْ جربة وقرقنة، معتبرة أنّ ذلك سينعكس سلبًا على السياحة، فهذا الارتفاع في مستوى البحار ينذر بفيضانات تهدد المدن الساحلية، كما أنّ ارتفاع نسبة الملوحة في المياه تجعلها غير صالحة للري الزراعي إلى جانب مخاطر الانجراف البحري.
ودعت نسرين شحاتة إلى ضرورة أن توفر الدولة نظم البيانات الضرورية واللازمة لقياس انعكاسات التغيرات المناخية حتى تكون الحلول مبنية على هذه الأرقام، مشيرة إلى أنّ تونس تفتقد لهذه النظم.
كما اعتبرت شحاتة أنّ الحلول تنطلق من التهيئة المعمارية والبنية التحتية المراعية لهذه التغيرات إلى جانب العمل على إنشاء المساحات الخضراء في إطار تعاون بين القطاعين العام والخاص.
من جانبه، أكد المرشد الفلاحي والمهندس عضو المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية لطفي غواري، لـ”الترا تونس”، أنّ ظهور حشرات تفتك بالمحاصيل الزراعية على غرار الحشرة القرمزية أو سوسة النخيل الحمراء أو ذبابة الزيتون وعنكبوت التين هي آفات ظهرت بفعل اختلال التوازن البيئي.
وقال غواري: “لابد أن نمحّص بعمق ونفهم أسباب ظهور هذا النوع من الحشرات”، معتبرًا أنّ “اختلال التوازن البيئي قائم على جملة من العناصر المترابطة، إذا اختلت حلقة منها انفرط عقد السلسلة كلها”، حسب تعبيره.
ويوضح محدث “الترا تونس” أنّ تراجع الغطاء الغابي في تونس بسبب الحرائق أو التوسع العمراني، أو تحويل هذه المساحات إلى أراضٍ زراعية، جميعها عوامل جعلت من الحشرات الموجودة في الطبيعة بلا مسكن طبيعي ما اضطرها للبحث عن مكان للتعشيش والحياة”.
وتابع أنها “توجهت تبحث عن أماكن رطبة في ظل ارتفاع درجات الحرارة، فوجدت الأشجار المثمرة، وأمام تكاثرها يحاول الفلاح القضاء عليها فيستعمل أدوية كيميائية تقضي على الحشرات الضارة والأخرى النافعة وتخلق في المقابل حشرات أخرى متحولة تبحث عن البقاء وتتأقلم مع كل التغيرات التي تحدث للكرة الأرضية، بينما هاجرت من بلادنا الفراشات وكذلك النحل”، حسب تصريحه.
وأشار عضو المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية إلى أنّ ارتفاع درجات الحرارة وتواصل الجفاف وهطول الأمطار في غير موسمها، كلها ظواهر طبيعية تسبب فيها الإنسان، فالتغيرات المناخية هي وليدة انبعاثات غازات دفيئة والفلاحة ليست مجرد متضرر بل إنها أحد مصادر انبعاث هذه الغازات وهو ما يجهله البعض”.
ويشدد محدثنا على أنّ الفلاحة تساهم بأكثر من 20% من هذه الانبعاثات المتأتية من تحويل الغابات إلى أراضٍ زراعية وهو ما ساهم في إنتاج أكسيد النيتروز والميثان وثاني أكسيد الكربون. كما تعدّ تربية الحيوانات مصدرًا رئيسيًا لانبعاثات غازات الدفيئة من خلال ما يفرزه روث الدواب وخاصة الأبقار.
وبيّن المرشد الفلاحي لطفي غواري أنّ الفلاح لم يصل بعد إلى مرحلة إدراك هذه الأسباب والاقتناع بها من أجل الحد منها قدر المستطاع حتى نحد من هذه الانبعاثات الدفيئة وما نتج عنها من تغيرات مناخية أضرّت بالفلّاح والاقتصاد الوطني ككل.
ونبه إلى ضرورة اتباع استراتيجية واضحة تقوم على التوعية وعلى اعتماد الأساليب السليمة كتحويل روث الماشية إلى سماد واستعمال كل التقنيات التي من شأنها أن تجعلنا نخزّن الماء ونعتمد طرق ري سليمة، إلى جانب ضرورة الحفاظ على الغطاء النباتي وزراعة الأشجار والغراسات تحتها.. إلخ.
وختم عضو المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية حديثه بالتأكيد على أنّ الكرة الأرضية بصدد التأقلم مع ما فعله الإنسان بها وكذلك الحشرات، لكن وحده الإنسان عاجز عن مواجهة ما فعلت يداه في هذا الكوكب.
في السياق نفسه، انتقدت مؤسسة جمعية الصحة والبيئة في صفاقس وعضو المنتدى آمال بكير اختزال التغيرات المناخية في استعمال الطاقات المتجددة، مبينة أنّ هذا الملف لم يطرح بعد بشكل واضح وجدّي على المواطنين، حسب رأيها.
وسلطت آمال بكير، في تصريح لـ”الترا تونس”، الضوء على مخاطر التغيرات المناخية على صحة الإنسان، خاصة وأنّ شح الماء يعد أحد أهمّ تمظهرات هذه التغيرات وهو ما يهدد صحة الإنسان، إلى جانب ارتفاع درجات الحرارة.
ونبّهت إلى أن الجلطات الدماغية والجلطات الرئوية باتت تهدد كل الأعمار بسبب ارتفاع درجات الحرارة وخاصة التوجه للشواطئ في ذروة الحرارة اعتقادًا بأنّ من شأن ذلك أن يخفف من وطأة الحر الشديد.
ودعت إلى ضرورة تكثيف الومضات التوعوية لدعوة المواطنين إلى الحذر وشرب الكميات الكافية من الماء خصوصًا للأطفال وكبار السن، والبقاء في المنزل في الحر الشديد، إلى جانب توعية الحوامل بمخاطر الحرارة وما يمكن أن تسببه من مضاعفات كالإجهاض، وتثقيفهن بأهمية الرضاعة الطبيعية التي تعطي للطفل المناعة اللازمة وتحافظ على صنف بشري سليم قادر على مقاومة الأمراض.
وأشارت، في هذا السياق، إلى أنّ عدد الأطفال الذين يعانون الحساسية في تزايد بسبب عدم اعتماد الرضاعة الطبيعية واستعمال الحليب المجفف للأطفال.
وأكدت محدثة “الترا تونس” أنّ مخاطر التغيرات المناخية هي واقع موجود لا بدّ أن نتعايش معه، معتبرة أنّ على الإعلام أن يقوم بدوره كسلطة رابعة للتعريف بها والتحذير منها، وأنّ على الدولة أن تضع استراتيجية واضحة للتعايش مع التغيرات المناخية التي لا تقتصر على الجلوس تحت المكيفات عند اشتداد حدة الحرارة.
تجدر الإشارة إلى أنه من المنتظر أن ينظم المنتدى الوطني للتأقلم مع التغيرات المناخية مؤتمرًا علميًا على مدى أسبوع من 14 إلى 19 أكتوبر 2024 في عدد من ولايات الجمهورية وبمشاركة عدد من الجمعية ذات الصلة، للتعريف بمخاطر التغيرات المناخية والسبل الكفيلة باتباعها من أجل التأقلم معها ومواجهة مخاطرها.
زر الذهاب إلى الأعلى