أخبارتونس

الإعلام العمومي في تونس.. تعدّدت اللقاءات وغابت الإصلاحات

 

تجدّد الحديث والنقاش المجتمعي حول أزمة الإعلام العمومي السمعي البصري والمكتوب في تونس، إثر لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيّد ومديرة التلفزة الوطنية عواطف الدالي، وما رافق هذا اللقاء من انتقادات حادّة للخطّ التحريري للتلفزة العمومية المموّلة من دافعي الضرائب، اعتبرتها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في بيان تدخّلا يندرج في سياق كامل من “الرقابة على الإعلام والصنصرة وضرب مبدأ التعدّد والتنوّع والموضوعية إضافة إلى ممارسات إقصائية”.

 

ولم تمضِ سوى أيام، حتّى استفاقت البلاد الثلاثاء 8 أوت 2023، على يوم استثنائي في تاريخها، إذ غابت صحف دار الصباح ودار لابراس، وكذلك صحيفة المغرب، لأوّل مرّة منذ انبعاثها بعد حصول عطب فني في آلتيْ سحب الصفائح التابعتين لدار الصباح وسنيب لابراس وفي الوقت نفسه، وفق ما أكّده القائمين على هذه المؤسّسات الإعلامية، وهي أسباب كانت محلّ تشكيك من رئيس الجمهورية الذي تساءل خلال لقائه بكلّ من شكري بن نصير الرئيس المدير العام للشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر ومحمد الهاشمي المتصرف المفوض بدار الصباح، ”عن تعلّق الأمر بعطب حقيقي أم تعطيب مقصود”، حسب ما ورد في بيان رئاسة الجمهورية.

 

جدول دون إصلاحات

 

تعكس هذه الاتّهامات واختلاف وجهات النظر حول تشخيص الواقع الإعلامي بين الرئاسة والهياكل المهنية والقائمين على المؤسّسات الإعلامية العمومية، جدلا متواصلا إلى اليوم حول إصلاح الإعلام العمومي في تونس منذ الانتقال السياسي الذي شهدته البلاد سنة 2011، مضمونه تحميل المسؤوليات وتحديد المسؤولين عن هذه الأزمة، فيما غابت خُطط الإصلاح.

 

ويُبيّن الواقع في تونس أنّ مشاكل الإعلام العمومي متوارثة عبر الحكومات المتلاحقة، في ظلّ أزمة سياسية لم تخرج منها تونس منذ سنوات، كان من الصعب خلالها وضع إستراتيجية وخطط هيكلية واضحة المعالم تسير بهذا الإعلام نحو الإصلاح، وبقي النقاش حول هذا الإعلام العمومي متصدّرا المؤتمرات وحبيس اللقاءات والندوات دون أن يجد طريقا إلى أرض الواقع.

 

ويؤكّد الصحفي والكاتب ماهر عبد الرحمن ومؤلف كتاب “أزمة السمعي البصري العمومي في تونس”، لموزاييك، أنّ أيّ إصلاح للإعلام بشكل عام لن يتم في ظلّ غياب إرادة حقيقية لذلك وجهود متظافرة من قبل مهنيي القطاع وبدعم من المجتمع المدني.

 

يشار إلى أنّ المؤلّف النقدي ”أزمة السمعي البصري العمومي في تونس”، قدّم ماهر عبد الرحمان، من منبر مهني ومن خلاله جردا حقيقيّا للقنوات الإذاعية والتلفزيّة العموميّة التّونسيّة، وعرض تشخيصا مؤلما ومرعبا لمدى الانحدار الذي بلغه المرفق العمومي في الإعلام السّمعي والبصري، وتردّيه في مهاوي البيروقراطيّة والزّبونية والمحسوبيّة، وعدم اللّامبالاة.”

 

يضيف عبد الرحمان أنّ ”الإعلام تركي على حاله بقوانين قديمة وبالية مما يستدعي ثورة في مجال التشريع الخاص بالإعلام وطرق العمل وهيكلة المؤسسات الإعلامية العمومية داخليا.. والمشكل يكمن في أن السياسيين تركوا الإعلام على حاله حتى يسهل التحكم فيه واستمر الأمر إلى ما وصل إليه الحال في مؤسستي الإذاعة والتلفزة من مشاكل متراكمة أعاقتها عن دورها الأهم وهو الإنتاج.”

 

مسار الإصلاحات.. تركيز على التشريعات

 

انطلق مسار إصلاح الإعلام في تونس بعد الانتقال السياسي في 2011، ضمن مقاربة قوامها محاولات إعادة إنتاج تجارب غربية في سياق محلّي تونسي عبر ملتقيات وبرامج تدريبية ضمت صحفيين وإعلاميين ومدونين والعمل على صياغة مدونات أخلاقية لبعض المؤسسات وكذلك إعادة هيكلة الإطار التشريعي المنظمة للمهنة الصحفية والقطاع الإعلامي.

 

وأولى الخطوات ضمن هذا المسار كانت إلغاء وزارة الإعلام وتجميد نشاط الوكالة التونسية للاتصال الخارجي وإنهاء العمل بمجلة الصحافة وما تلى ذلك من صدور المراسيم أولها المرسوم عدد 10 لسنة 2011 مؤرخ في 2 مارس 2011 والمتعلق بإحداث ”هيئة وطنية مستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال”، والتي انحصر دورها في الجانب الاستشاري ثمّ تمّ سنّ المراسيم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر و116 لبعث هيئة ثانية للإصلاح وتنظيم القطاع السمعي والمرئي تتمتّع بأكثر صلاحيات من الهيئة الأولى المنحلة، ثم وقعت دسترتها كهيئة دستورية مستقلة ذات صبغة تقريرية ليتم فيما بعد عدم التنصيص عليها ضمن دستور 25 جويلية 2022 والجاري به العمل حاليا، وآخرها المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال والذي اعتبرته الهياكل المهنية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني مهددا لحرية التعبير وفصلا جديد من فصول التضييق على هذا الحق الذي يعتبر أبرز مكاسب الثورة.

 

الاستنتاجات المستخلصة من هذا المسار ”الإصلاحي للإعلام في تونس” أنّه اقتصر على الجانب القانوني واستثنى الجانب المتعلق بالنموذج الاقتصادي للمؤسّسات الإعلامية بهدف الحفاظ على ديمومتها وغابت الجهود المتعلقة بالحوكمة والتنظيم الهيكلي والإداري وخطط إصلاح الإنتاج واقتصر تدخل الفاعلين السياسيين على التعيينات الفوقية التي لم يرافقها الحديث عن برامج أو أهداف واضحة للإعلام العمومي.

 

كما يعكس هذا المسار ”الإصلاحي” أنّ مؤسّسات الدولة تركت قطاع الإعلام منذ 2011 متخبطا في مشاكل عديدة دون بلورة سياسات عمومية لإنقاذه وظل هذا القطاع دون سلطة إشراف محددة وواضحة وفتح المجال لتدخل العديد من الجهات في المجال الإعلامي. 

 

يذكر أنّ ملف قطاع الإعلام – أشرف عليه وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي ثم تم بعد ذلك تكليف وزير التشغيل والناطق الرسمي باسم الحكومة نصر الدين النصيبي بالإشراف عليه والذي تمت إقالته وبقي هذا القطاع دون سلطة إشراف محددة ومؤخرا اصبح رئيس الجمهورية قيس سعيد هو الماسك بزمام هذا الملف. 

 

مشاكل الإنتاج

 

ويؤكّد عبد الرحمان أنّ التلفزة لا تنتج وحوالي 80 بالمائة من محتواها إعادة للبرامج القديمة رغم وجود حوالي 1200 موظف قارين دون الحديث عن المتعاونين الخارجيين.” 

 

جدير بالذكر أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد كان قد أكّد في لقائه مع عواطف الدالي الرئيس المدير العام للتفزة الوطنية ضمن جملة ملاحظاته حول مؤسسة التلفزة الوطنية، أنّ العديد من البرامج التي تبثها القناة الوطنية فضلا عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء ليست بالبريئة.

 

وتابع رئيس الدولة حديثه مؤكّدا أنّ الشعب التونسي يتطلع إلى المستقبل لا إلى الماضي مضيفا بالعاميّة: ”قعدنا نجمّرو في البايت.. ولا يمكن تجمير البايت”.

 

ويقول الصحفي ماهر عبد الرحمان أنّه ”بالرغم من تخصيص حوالي 70 مليون دينار كميزانية سنوية وهي ميزانية تفوق وحدها كل ميزانيات القنوات الاذاعية والتلفزية التابعة للخواص، تجد التلفزة الوطنية مشاكل كبرى في علاقة بالإنتاج ويتجدد سنويا الجدل حول إنتاج المسلسل الرمضاني في ظل العجز عن التخطيط وبقية السنة لا يتم بث سوى أعمال تلفزية تم انتاجها في الماضي أو كما اسماها الرئيس بفترة ”الزمن الجميل”. 

 

تحديد أدوار الإعلام وتشجيع الاقتصاد الإبداعي

 

ووفق ماهر عبد الرحمان من الضروري تغيير أدوار الإعلام العمومي وتحديدها وتوضيحها والتنصيص عليها في عقود بين المؤسسة الإعلامية والحكومة لتخرج منها كراريس شروط ومواثيق البث تحدد خلالها المحتويات. 

 

وتابع ”يستدعي إصلاح الإعلام كذلك وضع سياسة عمومية على مستوى الدولة في دعم الإنتاج وفتحه للخواص وخاصة للشباب لأن الإنتاج الإعلامي في ما يسمى بإنتاج الاقتصاد الإبداعي وهو اقتصاد كامل نجحت دول أخرى في بعث حركية اقتصادية استفاد منها خاصة الشباب. 

 

”هذه الحركية الاقتصادية تحتاج إلى شركات ناشئة يتم بعثها من قبل الشباب التونسي وهي لا تحتاج إلا لميزانيات لا تتجاوز العشرين ألف دينار بإمكانها توفير الأدنى من المعدات اللازمة لإنتاج وثائقيات من مختلف مناطق الجمهورية تتحدث عن التنوع الثقافي في العادات والتقاليد واللهجات والثراء التاريخي للبلاد التونسية. 

 

وهذه الديناميكية والحركية تكون في إطار تعاون أفقي وحوكمة أفقية بمعنى أن يكون للجميع الحظوظ نفسها للحضور في الإعلام الوطني، وذلك ضمن استراتيجية هدفها إبراز الموروث الثقافي للبلاد مع احترام الخصوصيات واللهجات”.

 

دعم الشركات الناشئة

 

”يحرص البريطانيون على إبراز كل الثراء الذي تزخر به المملكة المتحدة المنقسمة إلى 4 مقاطعات تضم العديد من الشعوب داخلها وفي تونس نحن شعب واحد لكن عاداتنا وتقاليدنا ثرية وغير مختلفة من الضروري إبرازها ومن حق كل التونسيين في كل الجهات أن يكون لهم حضور ضمن الإعلام السمعي البصري العمومي وهذا لن يتم إلا عبر التعاون مع الشباب وشركاتهم الناشئة التي لا يتطلب بعثها الكثير وبالإمكان توفير التمويلات اللازمة لبعثها لو توفرت الإرادة فقط لا غير” يضيف المتحدث .

 

الفصل بين الإذاعة والتلفزة فساد أم حوكمة ؟

 

وبحسب عبد الرحمان الفصل الذي تم في سنة 2007 بين مؤسّستي الإذاعة والتلفزة كان محاكاة لتجربة فرنسية وليدة السياسات والتجارب الفرنسية وليس خصوصية تونسية وتم تنفيذ هذا الفصل ضمن ما سمي بالمسار الإصلاحي للإعلام وقتها إثر تعاظم الضغوط الداخلية والخارجية على المحتوى والحديث عن إدخال نوع من الديمقراطية وتحويل وجهة الأنظار بهذا الفصل الذي أدى العمل بميزانيتين وإدارتين وما رافق هذا الفصل بين المؤسستين من فساد في التسيير والحوكمة.

 

صحافة مكتوبة مهددة بالاندثار

 

بعيدا عن الجدل والتشكيك حول عطب الآلات أو تعطيبها والأسباب التي أدّت إلى عدم صدور نشريات داريْ الصباح ولابراس التي خصّها رئيس الدولة قيس سعيد بزيارات أكّد خلالها رفضه لما آل إليه وضع المؤسستين اللتين تمثلان تاريخ تونس، يؤكّد الواقع أنّ الصحافة المكتوبة في تونس مهددة بالاندثار. وهذه التهديدات سبقتها تحذيرات من قبل القائمين على كبرى المؤسسات الإعلامية المكتوبة (دار الصباح ودار لابراس) من إمكانية التوقف عن الصدور بسبب نفاذ مخزون الورق والصفائح والحبر وهي مشاكل مازالت قائمة إلى اليوم ومن عدم القدرة على خلاص الأجور وغيرها من الحقوق المادية للصحفيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى