“أفغنة أوكرانيا”: تهديد إرهابي للأمن والاستقرار في قلب أوروبا!!
بقلم إيهاب نافع (كاتب وباحث سياسي مصري متخصص في شئون الجماعات المتطرفة) – تعيش أوروبا واحداً أخطر التهديدات الأمنية والسياسية في تاريخها الحديث، فضلاً عن كونه أقوى تهديد إرهابي حقيقي، فعلى الرغم من أن أوروبا خاضت حروب مواجهة الإرهاب كافة خارج أراضيها من خلال الانخراط في تحالفات تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية تارة، أو تحت قيادتها تارات أخرى، فإن تلك الحروب كانت جميعها خارج أراضيها؛ من أفغانستان إلى كلٍّ من سوريا والعراق ومالي وبوركينا فاسو وأعماق أفريقيا، لكن المختلف هذه المرة أن أوروبا قد تضطر لمواجهة خطر الإرهاب على أراضيها، ففي الوقت الذي تبدو فيه الحرب الأوكرانية مواجهة بين جيوش نظامية قد تنتهي بالسلام في أي لحظة من خلال التوصل إلى اتفاق سياسي، لكن هذه الحرب لها وجهان آخران: أولهما أنها واحدة من أخطر المواجهات غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو. وثانيهما، وهو الوجه الأخطر لتلك الحرب، أنها استحضرت روح “الحرب الأفغانية” بشكل وصل بالبعض إلى توصيفها مباشرة بأنه يجري “أفغنة أوكرانيا”؛ بمعنى إقحام جيوش غير نظامية وجماعات مسلحة من كلا الجانبين الروسي والأوكراني، وهو ما يعني أن هؤلاء المتطرفين سيمثلون تهديداً حقيقياً للأمن في أوكرانيا وأوروبا كلها. بل إنه يجري إعداد أوكرانيا لأن تصبح خنجراً في الخاصرة الأوروبية يهدد أمنها وينال من استقرارها، بشكل يجعل منظومتها الأمنية محل استهداف في موجة متطورة شديدة الخطورة من الإرهاب، التي ربما لن تجدي معها نفعاً تحالفات مواجهة الإرهاب عبر الضربات الجوية والتعامل عن بُعد، كما كان يحدث في غالب التجارب الأوروبية السابقة.
وفي هذا الإطار، تحاول هذه الدراسة معرفة حجم العناصر غير النظامية في الحرب الأوكرانية وطبيعتها، فضلاً عن معرفة أوجه المقارنة بين النموذجين الأوكراني والأفغاني، وأخيراً، توضيح حجم التهديدات المستقبلية التي تشكلها ظاهرة المقاتلين الأجانب للأمن في أوروبا.
أولاً، الدعوات الأوكرانية والروسية لإقحام غير النظاميين في الحرب:
منذ بداية الحرب الأوكرانية ناشد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كلَّ من يمكنه معاونة جيش بلاده في مواجهة القوات الروسية، وأعلن زيلينسكي، نهاية فبراير الماضي، عن إنشاء “فيلق دولي أجنبي” للمتطوعين من خارج البلاد، وقال في بيان: “سيكون هذا الدليل الرئيسي على دعمكم لبلدنا”[1]. كما أكدت المخابرات الأوكرانية في مطلع مارس الماضي أنها عثرت على قلادات هوية صنعت لعناصر مجموعة فاغنر، واتهمت في بيان لها مجموعة فاغنر التي يبدو أنها أعادت تسمية نفسها باسم “ليغا”، بمساعدة روسيا في غزوها لأوكرانيا، وزعمت أن بعض المرتزقة التابعين لها شاركوا فعلياً في عمليات قتالية على الأراضي الأوكرانية ضمن صفوف الجيش المعتدي. وأعلنت أوكرانيا مطلع الشهر الجاري، أن روسيا تخطط لإرسال ما يصل إلى ألف عنصر من المرتزقة إلى كييف لتعزيز قواتها التي تحاول مهاجمة العاصمة الأوكرانية.
وبالمقابل، أعدت روسيا قوائم تضم أسماء 40 ألف مقاتل من الجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه، لوضعهم على أهبة الاستعداد للانتشار في أوكرانيا، وافتتح ضباط روس بالتنسيق مع الجيش السوري والميليشيات الموالية له مكاتب تسجيل في مناطق سيطرة النظام، وأن 18 ألف رجل آخرين سجلوا أسماءهم في حزب البعث الحاكم في سوريا، على أن تقوم مجموعة فاغنر بتدريبيهم[2]. كما أعلن الكرملين أنه سيسمح للمقاتلين من سوريا ودول الشرق الأوسط بالقتال إلى جانب روسيا في أوكرانيا، بعدما دعم الرئيس فلاديمير بوتين خطة إرسال مقاتلين متطوعين للانخراط في الحرب. كما قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن وزير الدفاع الروسي لفت إلى أن “معظم الأشخاص الذين يرغبون وطلبوا (القتال) هم مواطنون من دول في الشرق الأوسط وسوريون”.[3] وقد دعم الرئيس بوتين خطط السماح لمتطوعين، بما في ذلك أولئك القادمون من الخارج، بالقتال في أوكرانيا. كما ذكر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن أكثر من 16 ألفاً، معظمهم متطوعون من دول الشرق الأوسط، طلبوا المشاركة في الحرب.[4]
ثانياً، حجم العناصر غير النظامية في الحرب الأوكرانية وطبيعتها:
يتزايد يوماً تلو الآخر حجم القوات غير النظامية وعددها في معركة أوكرانيا؛ ففي الوقت الذي وافق فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على فكرة الاستعانة بآلاف المتطوعين من الشرق الأوسط وتوجيههم إلى منطقة دونباس بغية المشاركة في القتال الجاري هناك إلى جانب روسيا خلال اجتماع للأعضاء الدائمين لمجلس الأمن الروسي، قال وزير الدفاع الروسي: “نتلقى أعداداً هائلة من الطلبات من المتطوعين من دول مختلفة يرغبون في التوجه إلى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين بغية المشاركة في ما يعتبرونه حركة تحرير، ومعظمهم من دول الشرق الأوسط، إذ تجاوز عدد الطلبات عتبة الـ16 ألفاً، وفي هذه المسألة نعتبر من الصحيح الرد إيجابياً على هذه الطلبات، خاصة وأنها تأتي ليس لاعتبارات مالية بل بسبب الرغبة الحقيقية من قبل هؤلاء الناس، ونعرف الكثيرين منهم، وقد سبق أن ساعدونا في الحرب ضد “داعش” في أصعب فترة، خلال السنوات العشر الماضية”[5]. وقد اعتبر بوتين، رداً على عرض وزير دفاعه، أن “الممولين الغربيين للنظام الأوكراني لا يخفون عملهم على جمع مرتزقة من مختلف أرجاء العالم ونقلهم إلى أوكرانيا”، محملاً إياهم المسؤولية عن “التجاهل التام لكافة أعراف القانون الدولي”[6].
من جانب آخر أعلن المرصد السوري عن أن أكثر من 40 ألف مقاتل سوري سجلوا أسماءهم للذهاب إلى أوكرانيا للقتال بجانب الروس مقابل إغراءات مالية وامتيازات، ومعتبراً أن الروس ضاعفوا توزيع المواد الإغاثية في سوريا تزامناً مع الحرب في أوكرانيا، كجزء من تلك الإغراءات، وأن الفرقة 25 ولواء القدس وجيش التحرير الفلسطيني والفرق الحزبية يروجون للقتال في أوكرانيا ويسجلون أسماء المقاتلين[7].
ومن جانبها أعلنت صحيفة “التايمز” البريطانية أن 400 عنصر من مرتزقة “فاغنر” الروسية يتواجدون في كييف بهدف اغتيال الرئيس فولوديمير زيلينسكي، تمهيداً لسيطرة موسكو على أوكرانيا، وأن عناصر “فاغنر” لديهم أوامر من الرئيس فلاديمير بوتين، بتصفية زيلينسكي و23 شخصية حكومية أخرى، وأن المرتزقة ينتظرون إشارة من الكرملين، ووُعدوا بمكافآت مالية ضخمة. وأضافت الصحيفة أن ما بين 2000 و4000 مرتزق وصلوا بالفعل إلى أوكرانيا خلال يناير الماضي، حيث انتشر البعض في المنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك، فيما دخل 400 آخرون من بيلاروسيا وشقوا طريقهم إلى العاصمة[8].
وبالمقابل أعلن الجيش الأوكراني عن وصول أول مجموعة مقاتلين متطوعين من بريطانيا للمشاركة في القتال ضد القوات الروسية، ليكونوا جزءاً مما أسمته كييف (الفيلق الدولي)، وقد أعلن الرئيس، فلوديمير زيلينسكي، أن بلاده ستستقبل 16 ألف متطوع يمثلون الدفعة الأولى من المقاتلين الأجانب الذين “سيدافعون عن حرية أوكرانيا وشعبها”، فيما قال وزير الخارجية، دميترو كوليبا: إن عدد المتطوعين بلغ 20 ألفاً من 52 دولة ومعظمهم ينحدرون من أوروبا. واللافت أن أوكرانيا لم تكن تعاني حاجة فعلية إلى الجنود المقاتلين، كما أنها بدأت باتخاذ إجراءات للتعبئة العامة، ومنعت جميع الذكور من ذوي الأعمار (18-60) عاماً من مغادرة البلاد مع موجات الفارِّين من المعارك، ويمثل هؤلاء نسبة لا تقل عن 27% من عدد السكان في أوكرانيا، أي نحو 12 مليون شخص مما يقارب 44 مليون نسمة، ويعني ذلك أن البلاد كان لديها بالفعل قدرات لتجنيد قوات احتياط ضخمة. ولن يضيف عدة آلاف من المقاتلين الأجانب قدرات قتالية حاسمة لها[9].
وقد سافر بالفعل عشرات آلاف المتطوعين إلى أوكرانيا للانضمام إلى قواتها، وفقاً لوزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، بعد إعلان الرئيس الأوكراني أن بلاده ستنشئ “فيلقاً دولياً” للمتطوعين من الخارج لتنفيذ عمليات داخل البلاد، تشمل مواجهة المرتزقة التي يرسلها الكرملين وجهاً لوجه، مقابل مبالغ تصل إلى 2000 دولار يومياً. وقد كشف “ضابط من الصف الأول” ضمن أحد فصائل المعارضة السورية المسلحة، لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، عن بدء عمليات التسجيل للذهاب إلى أوكرانيا، وقال: “هناك عمليات تسجيل حالياً تتم في مناطق السيطرة التركية، وعمليات التسجيل هذه تتم بناء على رغبة الفصائل في قتال الروس”، نافياً أن يكون التسجيل بطلب من المخابرات التركية، وكذلك أكد مقاتل في أحد فصائل المعارضة للمنظمة أنه قام بتسجيل اسمه للذهاب إلى أوكرانيا عبر أحد الأمنيين في فرقة السلطان مراد (مقربة من تركيا)، والذي قاتل معه في أذربيجان، كما أن مسألة تجنيد مرتزقة عرب للقتال في أوكرانيا تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي[10].
ولم يقتصر الحضور للقوات غير النظامية في الحرب على ذلك، حيث تجلى حضور شيشاني واضح في المعركة في كلا الجانبين، إذ سارع القائد الشيشاني “رمضان قديروف” إلى إرسال قوات خاصة إلى أوكرانيا، ولم يكُفّ الرئيس الشيشاني عن الحديث عن إنجازات رجاله كما حدث حينما أعلن في 3 مارس 2022 عن احتلال قواته قاعدة عسكرية كبرى كانت تابعة لـ”قوميين متطرفين أوكرانيين”، ولا يعرف عدد المقاتلين الشيشان الذين تم نشرهم في أوكرانيا على وجه اليقين، لكن بعض التقارير تحدثت عن عشرة آلاف مقاتل، بينما أكد قديروف في 17 مارس 2022 أن ألف متطوع شيشاني في طريقهم للانخراط في صفوف القوات الروسية التي غزت أوكرانيا، حيث تستخدم موسكو القوات الشيشانية في قتال الشوارع المُحتمل أن يصاحب الاستيلاء على كييف أو غيرها من المدن، حيث تقول تقارير إن القوات الشيشانية تخوض معارك شرسة في مدن الساحل الأوكراني الاستراتيجية[11].
ولم يقتصر الحضور الشيشاني في الحرب الأوكرانية علي قديروف ورجال جيشه الموالين لموسكو، ففي جانب آخر من المشهد ظهر مقاتلون شيشانيون آخرون في أوكرانيا، لم يسامحوا قديروف على دعمه موسكو في 1999-2000 وعلى سحق مطالبهم بالاستقلال عن روسيا، فوجدوا في الحرب الدائرة على أراضي أوكرانيا فرصة للقتال ضد روسيا التي يعتبرونها عدوهم الأول، فبعد يومين من الغزو الروسي، سارع القائد الشيشاني المعادي لروسيا، أحمد زكاييف، والذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة الشيشان إشكيريا، قبل أن يتولى رئاسة الحكومة في المنفى لعدة سنوات – سارع إلى دعوة المقاتلين الشيشان من جميع أنحاء أوروبا إلى القتال من أجل أوكرانيا وصد عدوان روسيا، ويوجد في أوكرانيا كتيبتان مكونتان إلى حد كبير من قدامى المحاربين في الحرب الشيشانية، وكلتاهما نشطت منذ عام 2014، فيما يدور الحديث حول ما بين (300 إلى 500) شيشاني يقاتلون إلى جانب الأوكرانيين، ومن الصعب التحقق من الأرقام الحالية، والكتيبتان هما كتيبة “الشيخ منصور” نسبة إلى الإمام منصور الشيشاني، الذي قاد المقاومة ضد القوات الروسية في القوقاز أواخر القرن الثامن عشر مدة تسع سنوات، قبل أن يُؤسر ويُقتل في السجن، وتحالفت تلك الكتيبة مع الجماعات اليمينية المتطرفة والإسلاموفوبيا، كما تقاتل أيضاً إلى جانب كتيبة آزوف، وهي قوة موالية لكييف تتبنى وجهات نظر النازيين الجدد، وذلك بحسب تصريحات قائد الكتيبة “مسلم تشيبرلوف” في حوار سابق مع موقع VICE””الأمريكي: “لدينا علاقة جيدة للغاية مع كتائب المتطوعين الأوكرانية، نحن نقاتل معاً على الجبهة، ونتشارك في العديد من الصداقات، ولا نجادل أبداً حول العرق أو الدين”، والكتيبة الأخرى “جوهر دوداييف” نسبة إلى اسم أول رئيس للشيشان، والذي اغتيل عام 1994. وكان قد أسّس هذه الكتيبة القائد العسكري الشيشاني “عيسى موناييف”، الذي قاتل الروس أثناء حرب الشيشان الثانية عام 1999، وبعد اندلاع القتال شرقي أوكرانيا، شكل موناييف الكتيبة من مئات المتطوعين تحت قيادته، لكنه قُتل خلال إحدى المعارك عام 2015. ويقود الكتيبة منذ ذلك الوقت “آدم عثماييف”، وهو أوكراني من أصول شيشانية، وتشارك الكتيبة حالياً في القتال ضد القوات الروسية، وفي 27 فبراير، تعهّد زعيم كتيبة “جوهر دوداييف” آدم عثماييف بالقتال إلى جانب أوكرانيا[12].
ثالثاً، النموذج الأوكراني والأفغاني.. أوجه التشابه والاختلاف:
يقارن كثيرون بين النموذج الأفغاني والنموذج الأوكراني في الجهاد، بل صار متداولاً إعلامياً بشكل واسع فكرة “أفغنة أوكرانيا”، إذ تتشابه الظروف المحيطة بين الحربين من حيث وحدة التهديد والعدو الروسي، واستحضار الأدوات ذاتها المرتبطة بشيطنة روسيا، واستنفار المتطوعين من مختلف أنحاء العالم، سواء من أعداء روسيا أو المناصرين لمظلومية أوكرانيا أو المدعومين غربياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك حلف الناتو.
وأكبر ما يقلق موسكو هي محاولات الولايات المتحدة الأمريكية أفغنة أوكرانيا، كما فعلت بأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، حيث سارعت واشنطن إلى احتضان المجاهدين المحليين، ومن جنسيات متعددة لاحقاً، وأمدّتهم بالدعم الذي أنهك موسكو، واضطرها إلى الانسحاب بعد عشر سنوات، والآن تتجه إدارة الرئيس بايدن نحو تكرار تلك التجربة في أوكرانيا، فضلاً عن تصريحات للجنرال المتقاعد باري ماكغفري، توقع فيها استمرار الحرب “الروسية – الأوكرانية” 10 سنوات على الأقل[13].
لم تكن الظاهرة الجهادية مع “العرب الأفغان” ظاهرة عابرة، ذلك أن الأمر لم ينته بانسحاب الجيش السوفيتي من أفغانستان. فقد اكتسب المقاتلون العرب الذين جاؤوا من جميع أصقاع العالم خبرة قتالية، وشكلوا شبكاتٍ أصبحت مصدر قلق في دولهم الأصلية، وبعد ذلك في العالم، حيث انضم هؤلاء المتطرفون المتجولون إلى الحرب في البوسنة مع انهيار يوغسلافيا، ثم انتشروا بعد ذلك إلى الشيشان والجزائر والعديد من الأماكن الأخرى في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الإطار نفسه يمكن أن تشكّل الحرب في أوكرانيا نقطة الانطلاق لتكرار تجربة مماثلة لما حدث في أفغانستان؛ ذلك أن هناك وجوداً راسخاً لليمين المتطرف في البلاد، وفي ظل الديناميات الجديدة بعد الغزو الروسي، وهناك حديث قوي عن انضمام أفراد أجانب من جميع أنحاء العالم إلى جهود المقاومة التي تبذلها الحكومة الأوكرانية[14].
جدول يوضح أوجه المقارنة بين حربي أفغانستان وأوكرانيا وتداعياتهما على الحركات المتطرفة
وعلى عكس ما سبق، فقد استبعدت تقارير غربية تكرار النموذج الأفغاني في أوكرانيا ومنها تقرير تساءلت فيه صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إذا ما كان من المحتمل أن تستسلم كييف في نهاية المطاف لهجوم الجيش الروسي، فهل يمكن بعد ذلك توقع مقاومة طويلة؟ حيث عادت الصحيفة إلى الوراء لتذكّر بأنه في 11 ديسمبر 1994، عندما أطلق الكرملين قواته لمهاجمة الشيشان، أعلن مسؤول روسي أنه سينهي التمرد في غضون 48 ساعة. لكن الأمر استغرق خمسة أسابيع للقوات المسلحة الروسية، وحدث اندلاع غير مسبوق للعنف والقصف الجوي وهجمات الدبابات للسيطرة على القصر الرئاسي في عام 1995، واستمر الصراع عامين، أعقبه صراع آخر أطول في عام 1999. ودُمرت غروزني والشيشان، واعتبرت الصحيفة أنه ما يزال من السابق لأوانه الإجابة، ولكن ليس من السابق لأوانه طرح السؤال: هل ذهب فلاديمير بوتين بعيداً هذه المرة؟ هل ستكون الحرب في أوكرانيا أفغانستان جديدة لروسيا؟ هل ستكون بداية النهاية لعهد رئيس أصبح قيصراً ثم ديكتاتوراً؟[16]. لكن من الواضح أنه لم يَقِس مقاومة الجنود الأوكرانيين، ولم يقِس أيضاً مقاومة الشعب الأوكراني الذي ألقى زجاجات المولوتوف من النوافذ على الدبابات الروسية وتكتّل خلف رئيسه فولوديمير زيلينسكي، الذي رد على الإدارة الأمريكية عندما عرضت تهريبه بالقول: “لست بحاجة لسيارة أجرة، أنا بحاجة إلى أسلحة”[17].
رابعاً، حجم التهديدات المستقبلية للأمن في أوروبا:
طرحت الحرب الروسية الأوكرانية من جديد هاجس الأمن الأوروبي من عدة زواياً، أولها شعور معظم مواطني أوروبا بمخاوف من استمرار الحرب أو احتمالات توسعها. كما طرحت الأزمة زواياً أخرى؛ منها إعلان دول أوروبية كبرى، وعلى رأسها ألمانيا، معاودة النظر في استراتيجياتها التسليحية لجيوشها تحسباً لأي خطر وارد أو مواجهة غير متوقعة، فيما يطرح البعض هاجساً آخر مرتبطاً بفكرة الاستعانة بالجيوش غير النظامية، أو تلك الجماعات المؤدلجة في مناصرة أيٍّ من الطرفين.
ووفقاً لاستطلاع أجراه مؤخراً المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية يرى الأوروبيون أن المدافعين الرئيسيين عن أوكرانيا هم الاتحاد الأوروبي (80%) وحلف الناتو (79%)، وأن الدفاع عن أوكرانيا بالنسبة لمعظم الأوروبيين يعنى الدفاع عن النظام الأمني الأوروبي بعد الحرب الباردة، بدلاً من مجرد الانحياز إلى جانب في الصراع الروسي – الأوكراني[18]. كما لا يزال معظم الأوروبيين يثقون بالناتو في الدفاع عن أوروبا، وأن “الناتو” لم يعد مجرد اسم آخر لـ “الولايات المتحدة”. وفي جميع البلدان التي شملها الاستطلاع، باستثناء بولندا ورومانيا، يعتقد المزيد من المشاركين أن ألمانيا في وضع أفضل من الولايات المتحدة لحماية مصالح مواطني الاتحاد الأوروبي. ويثبت الاستطلاع أيضاً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يمنع لندن من عرضها التضامن مع كييف الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة، وقلة قليلة من المواطنين في أوروبا يرون أن للمملكة المتحدة دوراً كبيراً. و يعتقد المشاركون في بولندا بنسبة 66% والسويد بنسبة 52% أن المملكة المتحدة يجب أن تدافع عن أوكرانيا، فيما يخشى الألمان والفنلنديون والرومانيون والإيطاليون في المقام الأول أن تقطع روسيا عنهم إمدادات الطاقة. وفي الوقت نفسه ربما يشعر الفرنسيون والسويديون بالقلق من الهجمات الإلكترونية؛ بسبب محاولات موسكو الأخيرة التدخل في انتخاباتهم[19].
وبشكل متصل نجد أن المرتزقة يشكلون خطراً داهماً على منظومة الأمن الإقليمي والدولي، ويُنظر إلى هؤلاء باعتبارهم شوكة في خاصرة الأمن والاستقرار الدوليين لسهولة توظيفهم واستقطابهم، والزج بهم في ساحات مختلفة كوقود للصراعات، وهو ما شهدته بلدان عدة في العالم، خلال فترات زمنية مختلفة، ويأتي هذا في الوقت الذي يحذر فيه مراقبون من الخطر الداهم الذي يواجه أوروبا قادماً من ناحية الشرق، حيث المرتزقة في حرب أوكرانيا، والذين يحملون جنسيات مختلفة من المملكة المتحدة إلى أستراليا وبولندا وإيطاليا واليابان وحتى الحديث عن مشاركة جنسيات عربية، والذين قد يتسببون جميعاً في تحديات أمنية واسعة مستقبلاً، وذلك بالقياس على تجارب سابقة تم الدفع خلالها بالمرتزقة (في أفغانستان والعراق وسوريا على سبيل المثال)، وهو ما يستدعي الحديث عن تهديد يلف أوروبا[20].
وكانت الدعوات إلى استقطاب مقاتلين أجانب متطوعين و”مرتزقة” بدأت فعلياً، حيث دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كل الأجانب، الذين يريدون الانضمام إلى مقاومة الروس – دعاهم إلى المجيء إلى بلاده والالتحاق بصفوف الجيش. ولم تعلق أو تعترض دول الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية على الأمر، بل سارعت دول أوروبية إلى مشاركة أوكرانيا في حشد المقاتلين، مثل بريطانيا والدنمارك اللتين سمحتا للمتطوعين منهما بالانضمام إلى فيلق دولي، وأعلنت لاتفيا موافقة البرلمان بالإجماع على إرسال المتطوعين بالقتال إلى أوكرانيا في 1 مارس 2022، وكذلك تطوع 400 سويدي، ونحو 100 شخص يعيشون حالياً في اسكتلندا، وكذلك 70 متطوعاً يابانياً، معظمهم جنود[21]. فيما تتوارد تقارير عن استقطاب مرتزقة ومقاتلين من كل من أفغانستان وليبيا واليمن والعراق وإدلب السورية، حيث تم سحب مجموعة من المقاتلين من جبال اللاذقية وإدلب باتجاه تركيا منذ فترة، ويجري تدريبهم بشكل جيد، وهم يحملون جنسيات روسية مثل مجموعات أوزبيكية، وأجناد القوقاز، وعناصر الحزب الإسلامي التركستاني، وقبائل البشتون التي تعيش بين الحدود الإيرانية والأفغانية، أما تحرير إدلب فمتوقف على اتخاذ قرار روسي سوري مشترك، وخاصة أن القوات التركية في الخطوط الأمامية هناك[22].
وليست الأزمة هنا في مشاركة المرتزقة والمتطوعين في الحرب الدائرة، حيث ينشغل الجميع الآن برحى الحرب الدائرة رغم صعوبتها، لكن الأزمة الحقيقية ستبدأ مع انتهاء الحرب فعلياً، إذ ستكون الحرب قد صنعت أجيالاً جديدة من المقاتلين الشرسين، بينهم مَن مارس العنف للمرة الأولى ومنهم من شعر بذاته في القوة وممارسة أعمال عسكرية ربما على غير المعتاد بالنسبة له، إذ إن التجارب الماضية المماثلة كأفغانستان خلفت أخطر تنظيم إرهابي عرفته البشرية وهو تنظيم “القاعدة”، والذي كان كالنبت الشيطاني الذي تولدت منه الجماعات المتطرفة الأخرى كافة، وأسفرت تطوراته عن تنظيم “داعش” وأمثاله، بل لقد ظهر داعش في العراق، بعد الغزو الأمريكي له واحتلاله، كأعنف تنظيم إرهابي تحول إلى دولة، بل ونشر التنظيمان ذئاباً منفردة وخلايا نائمة ظلت لسنوات طويلة تهدد أوروبا بعمليات فردية أزعجتها على مدار السنوات الماضية، بل إن المتطوعين من أبناء أوروبا في الحرب الأوكرانية، والذين تدعمهم أوروبا ويعجزون عن المشاركة فيها علناً، هم أنفسهم الذين تخلوا عن استقبال عوائل أبنائهم الذين اعتنقوا التطرف في داعش، بل وصل الأمر ببعض الدول ومنها بريطانيا إلى إسقاط الجنسية عن مواطنيها تهرباً من استقبالهم أو حتى استقبال أطفالهم؛ الأمر الذي يُعتقد معه أن العناصر التي انضوت تحت ألوية مختلفة للقتال في أوكرانيا، أياً كانت دوافعهم أو وجهاتهم، لن يعودوا من حيث أتوا بسهولة كما يُعتقَد، بل بالقياس على التجارب السابقة سيصبحون خنجراً في خاصرة أوروبا، وورقة تهديد لأمنها واستقرارها.
وثمة تداعيات محتملة لتدفق المقاتلين الأجانب إلى ساحة الحرب في أوكرانيا؛ ومنها تشكيل بؤرة تطرف جديدة، وتطرح احتمالية أن تصبح أوكرانيا مركز ثقل جديداً للمقاتلين الأجانب، ومع حصول هؤلاء على التدريب والخبرات القتالية، فسيكون من الصعب السيطرة عليهم حال انتهاء القتال؛ ما يؤدي إلى زيادة محتملة من النشاط المتطرف داخل البلاد من ناحية، واحتمالية تهديد الدول الواقعة في نطاقها الجغرافي من ناحية أخرى.
كما سيعزز وجود المقاتلين الأجانب من استهداف المدنيين، ولاسيما من قبل المقاتلين الذين انضموا إلى القتال بغرض الإثارة والمغامرة، إذ كانوا أكثر ميلاً إلى ارتكاب جرائم ضد المدنيين الذين صادفوهم أثناء خدمتهم في منطقة نزاع أجنبي.
ومنها أن وجود المقاتلين الأجانب في مناطق الصراعات سيؤدي إلى إطالة أمدها، ومن ثم تعثُّر مساعي التسويات السياسية، إذ سيسعون إلى إفساد عمليات السلام بهدف تقويض استقرار الأوضاع؛ وذلك لأن استمرار الصراع يساعد في الحفاظ على مصالحهم؛ ما يدفعهم إلى التوسع في توظيف العنف سعياً لإفساد عمليات التسوية، فكلما زاد انخراط الأطراف الخارجية في النزاع، أصبحت النزاعات أطول وأكثر دموية،
ومنها أن عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية سيثير جملة من التحديات والإشكاليات على الصعيد القانوني، ولاسيما مع اختلاف التعاطي الدولي معهم، إذ شجعت بعض الدول مواطنيها للذهاب إلى أوكرانيا، بينما حذرت دول أخرى مواطنيها من الانخراط في القتال هناك. وكذلك على الصعيد الأمني، وخاصة أن هؤلاء أصبح لديهم خبرات مكتسبة ستولّد لديهم القدرة على التجنيد ونشر العنف؛ ما يمثل تهديداً لأمن الدول والمجتمعات[23].
وأخيراً، فإن الخلفيات الاجتماعية والتعليمية والثقافية المختلفة، التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون الأجانب، لا تؤهلهم في الغالب للتعامل السلمي مع أسرى الحرب والجرحى، وغيرها من المسائل المتعلقة بقواعد الجيوش النظامية، وهو ما قد تنجم عنه انتهاكات رهيبة يصعب محاسبة مقترفيها لأنهم ليسوا جنوداً نظاميين. بل هناك مخاطر محلية على نطاق أوكرانيا، حيث مكمن المخاوف من جلب مقاتلين أجانب إلى أوكرانيا في أن هؤلاء في الغالب ليس لديهم دوافع نبيلة أو وطنية للحرب، بل يذهبون للقتال بحثاً عن المال، وهم في الأساس عناصر إجرامية؛ ما يثير القلق من أن هذا الجهد سوف يشجع ملكية الأسلحة الخاصة، والتي تنطوي على مخاطر في الجريمة والانتحار والعنف المنزلي.
الخلاصة:
تكرر كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا السيناريوهات ذاتها التي جربتها في حروب سابقة في أفغانستان والعراق وسوريا، والجميع يدرك المخاطر المحدقة بالاستعانة بالمرتزقة في الحرب. كما أن المرتزقة يمثلون واحدة من أهم أوراق المعارك الدائرة ميدانياً في الوقت الراهن، ويزيدون من تعقيدات المشهد العسكري لدى كلا الجانبين، ويزيدون من أمد المعارك، ويسهمون في إفشال الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة.
لقد أعادت الحرب الأوكرانية تنشيط وجود المرتزقة وجمعت شتاتهم من أفغانستان، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأحضرت المئات من الذئاب المنفردة إلى ساحات القتال في مواجهة الروس في الحرب الأوكرانية. وبتعبير آخر، فإن تجميع كل هذه الأعداد من المرتزقة، التي تجاوز عددها 40 ألف مقاتل، من مختلف أنحاء العالم يفتح المجال لأقوى وأوسع اختراق أمني على مدار التاريخ الحديث لمنظومة الأمن في أوروبا. ومع انتهاء الحرب مع روسيا ستكون بداية صعبة لنموذج مختلف من المرتزقة والإرهاب في قلب أوروبا، بل ومن الوارد أن يلتفت هؤلاء لصناعة عدو جديد في الداخل الأوروبي، وفي هذا الإطار ستدفع أوروبا لسنوات طويلة أو ربما لعقود مقبلة ثمناً باهظاً مقابل سماحها بدخول المرتزقة أراضيها.