أخباردوليعربي

دراسة: الديانة الابراهيمية أو خطط الإمارات لتمكين الاندماج الإسرائيلي في المنطقة

وقالت الدراسة إنه إطلاق ” اتفاق أبراهام” على تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، لم يكن عبثاً بل حلقة بمسلسل طويل من التهويد والترويج للاندماج الإسرائيلي.

فالاتفاق الذي أُعلن في 13 (أغسطس) 2020، وجرى توقيعه بين الإمارات والبحرين وإسرائيل في البيت الأبيض، برعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي أوضح خلاله السفير الأمريكي لدى إسرائيل أن سبب إطلاق تلك التسمية على الاتفاق يرجع إلى أن “إبراهيم كان أبا لجميع الديانات الثلاثة العظيمة، فيشار إليه باسم (أبراهام) في المسيحية، و(إبراهيم) في الإسلام، و(أبرام) في اليهودية.

وأثارت تلك التسمية تساؤلات عديدة حول دلالات تلك التسمية، إذ لا يمكن النظر إليها بعيدا عن جذورها وخلفياتها الدينية، التي تكشف بوضوح مدى توظيف السياسي للأبعاد الدينية والتاريخية ما يسهل عليه تمرير أجنداته السياسية تحت غطاء ديني.

ويأتي إعلان الإمارات عن خطط لبناء صرح يجمع بين الديانات السماوية الرئيسية الثلاثة، أي المسيحية، واليهودية، والإسلامية، والذي أُطلق عليه “بيت العائلة الإبراهيمية”.

ومن المقرر تشييده في جزيرة السعديات بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي، استمراراً لهذا النهج، والذي تسعى الإمارات من خلاله إلى تدشين مرحلة جديدة في المنطقة من خلال تفتيت ما تبقى من هوية عربية إسلامية، ودمج إسرائيل عضويا في المنطقة العربية، عبر تمييع الهوية الدينية لشعوب المنطقة، فلا يكون الدمج سياسي فقط، بل ديني ومجتمعي.

ولأن الدين يُعد مكوّناً رئيسياً في المجتمعات العربية، سعت الإمارات لتوظيفه بما يخدم رؤاها وأهدافها، فاتجهت إلى تبني نمط ديني معاكس تماماَ لروح الإسلام الفاعلة أو (الحركي) كما يطلق عليه البعض، متبنيه النهج الصوفي، المتسامح مع أي تغيير جذري تتبناه الحكومات، والذي لا تخرج خطاباته عن عباءة السلطة السياسية مهما ضاقت العباءة وخرجت عن محددات التشريع ومقاصد الدين.

وسعت الإمارات لتوظيف نماذج مختلفة من الدين، فدعمت الجامية ووظفت الصوفية وسوقت للإبراهيمية.

وتهدف هذه الدراسة الإجابة على تساؤل ماهي ملامح المشروع الإبراهيمي ومدى مخاطرة على المنطقة وماذا تسعى الإمارات من تبنيه والترويج له.

الديانة الإبراهيمية.. المصطلح والنشأة

الابراهيمية مصطلح ديني غامض كثر استخدامه في السنوات الأخيرة، حيث يتم تسويقه كرمز للسلام والتسامح والتقارب بين الأديان الثلاثة (الإسلام – النصرانية –اليهودية)، وتم تدشينه والإعلان عنه بشكل رسمي حينما أطلق على اتفاق التطبيع بين الكيان الصهيوني ودولتي الإمارات والبحرين.

إذ جاء الحديث عن الابراهيمية كدعوة لنبذ الخلافات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث والبحث عن المشتركات من أجل تجسيد قيم الاخوة والتسامح والتعايش في المنطقة بهدف انهاء حالة الصراع العربي الإسرائيلي المستمرة.

وليس بخلاف أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أعلنت وبصورة مستمرة أن من أهم أولويات سياستها الخارجية المحافظة على أمن حليفتها إسرائيل وضمان تفوقها الإقليمي، ويرى بعض الباحثين أن هذه الدعوة هي استمرار لهذا النهج الأمريكي، وهذا المصطلح ليس بجديد ولكنه قديم تم تناوله في مراحل زمنية مختلفة، ولكن اختلف توظيفه من مرحلة إلى أخرى.

وعندما يشار إلى الديانات الإبراهيمية يفهم بأن المقصود عادة هي الديانات (الإسلام واليهودية والمسيحية) ويسلط مصطلح “إبراهيم” الضوء على الدور المهم لشخصية النبي ابراهيم عليه السلام (أبو الأنبياء) كشخصية محورية في كل من هذه الأديان ويختلف نظرة المسلمين واليهود والمسيحيون نحو سيدنا إبراهيم ولكنه تجتمع جميعها على تقديره واحترامه واتباعه.

وكان أول من طرحه المستشرق الفرنسي “لويس ماسينون” في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان “الصلوات الثلاث فإبراهيم أب كل المؤمنين” ثم تحولت “الديانات الإبراهيمية” إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها.

وكذلك يٌعد المفكرُ الفرنسيُّ روچيه جارودي (1913-2012م)، من أبرز منظِّري (وَحدة الأديان)، وهو يطرح نوعين مِن الوحدة:

أحدهما: وَحدة صغرى، وهي (الإبراهيمية)، ويهدف من ورائها إلى توحيد الأديان التي تُعلن انتماءَها إلى أبي الأنبياء إبراهيم، عليه السلام، أي (الإسلام والنصرانية واليهودية).

والآخَر: وَحدة كبرى، تشمل جميع الأديان والملل الوثنية، بل والملحدين! بجانب أنّ تلكم الوثنيات آثارُ نبواتٍ سابقة، وأن الملحدين يؤمنون بـ (الإنسان) وأن للحياة (معنى).

كما برز المصطلح عندما قاد الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” اتفاقية التطبيع بين مصر و(إسرائيل)، في عامي 1978 و1979، والتي جاءت تحت اسم “اتفاقية كامب ديفيد”، ووقعها “أنور السادات” و”مناحيم بيجن”، أعلن “كارتر” قائلا: “دعونا الآن نضع الحرب جانبا لنكافئ جميع أبناء إبراهيم المتعطشين لسلام شامل في الشرق الأوسط، فلنستمتع الآن بمغامرة أن نصبح بشرا كاملين، وجيرانا كاملين، وحتى إخوة وأخوات”.

وكان الرئيس المصريُّ الأسبق “أنور السادات” ممن يتبنى “الإبراهيمية”، ويرددها في أحاديثه، ويتكلم عن “أُخوّة العرب واليهود” لأنهم أبناء إبراهيم، ويدعو إلى ضرورة الصلح بينهم، بل إنه سعى لترجمة فكرته على أرض الواقع، حيث قرر إنشاءَ مجمعٍ للأديان في سيناء.

وترى الباحثة هبه جمال الدين أن الديانات الإبراهيمية مصطلح تم إطلاقه في الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وطرحه جاء ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية مشتركة وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية” لتمثل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد.

وفي هذا الإطار، يرى جيمس روزينوه أن مستقبل العالم سيرتكز على السلام العالمي الذي سيتحقق عبر الديانات الإبراهيمية والعقائد المتداخلة، كمدخل جديد لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وكطرح بديل لنظرية “هنتنغون” حول صدام الحضارات ونظرية “فوكوياما” حول نهاية التاريخ.

بل ليعكس نهجاً جديداً داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة، كالتسامح العالمي، والأخوة الإنسانية والحب والوئام كمفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل.

إذا فقد بدأ التخطيط لمشروع الديانة الإبراهيمية (توحيد الأديانِ الثلاثةِ وصَهرِها في دين عالميّ جديد) عام ١٩٩٠، وبدأ تنفيذه عام ٢٠٠٠، وبدأت مأسستُه داخلَ وزارة الخارجية الأمريكية عام ٢٠١٣م، كما أشار الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إلى الدين الإبراهيمي الواحد، خلال تقرير الدين والدبلوماسية الصادر عن معهد “بروكنجز” الدوحة 2013.

هذه أهم المراحل التي مر بها مصطلح “الإبراهيمية” قبل أن يتم تدشينه بشكل رسمي خلال اتفاقية التطبيع بين الكيان الصهيوني ودولتي الإمارات والبحرين برعاية أمريكية.

حقيقة المصطلح

من أخطر التحديات الفكرية التي تواجهها المجتمعات وخاصة تلك المجتمعات التي تعاني من تبعية سياسية وثقافية مثل مجتمعات الشرق الأوسط، المصطلحات التي تحمل أكثر من وجه، ذلك أن بريق المصطلح واعتياده يخفي وراءه الوجه القبيح الذي يحمله، ومع كثرة استعماله تختلط الأوراق، وتمرر المشاريع الهدامة.

وقد سعي الغرب على فترات سابقة لتسويق بعض المصطلحات التي يهدف من خلالها تغيير القناعات والأفكار في الشرق الأوسط، على سبيل المثال مصطلح “الإرهاب” أو “التجديد الديني” أو “الشرق الأوسط الجديد” وغيرها من تلك المصطلحات التي تخفي وراءها أكثر مما يبدو من ظاهرها، وكذلك يأتي مصطلح ” الديانة الإبراهيمية” في هذا الإطار.

فمصطلحات مثل “الديانات الإبراهيمية” و”الدين الإبراهيمي الجديد” التي ظهرت على الساحة في السنوات الأخيرة تحمل في طياتها معان حسنة ومقبولة في الظاهر ولا تتعارض مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية في جوهرها من قبيل التعايش والتسامح والسلام.

لكن تخفي في باطنها معان باطلة تخفي الحقيقة وأهداف مروجيها المتمثلة في طمس الهوية العربية الإسلامية، والتطبيع الكامل مع إسرائيل بما يضمن لها التحكم الكامل والسيطرة على شعوب المنطقة.

وعندما نطالع بعض الدراسات التي تناولت “الإبراهيمية”، ومن ينادون بها؛ نجد أننا أمام صورتين، لكل منهما مفهومُه، ودلالتُه الخطيرة:

إحداهما: تتمثل في الدعوة إلى الوَحدة أو التقريبِ أو التوفيقِ بين اليهوديةِ والنصرانيةِ والإسلام، وإسقاطِ الفوارقِ الجوهرية فيما بينها، والالتقاءِ على القواسم المشتركةِ فيها، والاعترافِ بصحتها جميعا، تحت مظلةِ الانتسابِ إلى سيدنا إبراهيم، عليه السلام، دون الحاجةِ إلى أن يتخلى المنتسبون لأي من هذه الأديان عن دينهم الخاص بهم.

وانطلاقا من هذا تقام مُجمّعات “روحية” للأديان الثلاثة، مثلما فعلت الإمارات؛ حيث تقوم ببناء مجمع أو معبد الديانات الإبراهيمية الثلاث في أبو ظبي، باسم “البيت الإبراهيميّ”، يضم مسجدًا للمسلمين وكنيسةً للنصارى ومعبدًا لليهود، وتنوي افتتاحَه العامَ المقبل (2022).

ثم تبع ذلك فكرةُ إقامةِ صلاةٍ مشترَكة تجمع اليهود والنصارى والمسلمين، زعموها “الصلاة الإبراهيمية”، أو “صلاة أبناء إبراهيم”، ففي شهر مارس 2021، وفي زيارته إلى الشرق، وفي العراق، قام بابا الفاتيكان بأداء ما زعموها “صلاة أبناء إبراهيم”، مع ممثلين عن اليهود والمسلمين.

الصورة الثانية لـ “الإبراهيمية”: تتمثل في الدعوة إلى توحيد الأديان ودمجِها في دين عالميٍّ جديد، وهو ما يزعمونه “الدين الإبراهيميّ، وكما يقول أحد الباحثين: “هي بوتقة لصهر الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام واليهودية والمسيحية، لينتج عنها ديانة جديدة، يزعمون أنه من خلالها يَعُمّ السلامُ، والأُخوّةُ الإنسانيةُ، والمشترَكُ الدينيّ، وذلك من خلال جمع نقاط الاشتراك بين الديانات الثلاث، وتنحية النقاط المختلف فيها جانبا.

وبالطبع ستكون نقاطُ الالتقاءِ على اليهودية فقط؛ حيث إن المسلمين يعترفون بالديانات الثلاث، بينما النصارى يعترفون باليهودية والمسيحية فقط، أما اليهود فلا يعترفون إلا باليهودية، لذا فلن تكون نقاطُ اتفاقٍ إلا ما وُجِد في اليهودية.

وهكذا يتبين لنا وجهان أو صورتان للإبراهيمية:

الأولى: تقر بوجود ثلاثة أديان إبراهيمية، وكلها صحيحة، وتدعو إلى الوحدة بينها، على أساس ما هو مشترك بينها.

والثانية: تُلغِي الوجودَ الفعليَّ للأديان الثلاثة؛ وتدعو إلى كتابة دين جديد واحد للعالَم، وتكون عناصره ومكوِّناتُه مستمدةً من الأديان التي أُلغِيت.

وسواءٌ أكانت “الإبراهيمية” دعوةً إلى التقارب والوَحدة بين اليهودية والنصرانية والإسلام، تحت مظلة الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام؛ أم دعوةً إلى دمجها وإذابتِها في دين جديد قائم بذاته؛ فكلاهما فيما يظهر وجهان لعملة واحدة، ومساران متطابقان لخدمة مخططٍ واحد، وتوجُّهٍ واحد، وهو تفريغ الأديان من مضمونها، وفضُّ الناس عنها، وبخاصة الإسلامُ؛ حيث يَنتُج عن الأولى إسلامٌ مفرَّغٌ من حقيقته، منزوعٌ منه خصائصُه، يجافي تماما الدينَ الحقَّ، بما يتوافق مع مسارات التطبيع واندماج وهيمنة الصهاينة على المنطقة.

أهداف الدعوة إلى (الإبراهيمية):

تتعدد أهداف الدعوة إلى ” الديانة الإبراهيمية” ولكنها تسعي إلى هدف رئيسي وهو دمج الكيان الصهيوني في المجتمعات العربية وإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، ويرى د. ناجي خليفة الدهان أن من أهم أهداف هذا المشروع:

1- إدراك الصهيونية أن استمرار بقاء إسرائيل في المنطقة العربية مرهون بتغيير عميق في ثقافة شعوبها التي تعتبر الدولة العبرية كيانا غريبا ومعاديا لها، ولأن شعوب المنطقة العربية تشكل فيها العقيدة الدينية والموروث الثقافي العقائدي الثقافة العامة والجمعية، فإن أي تغيير في تلك الثقافة الجمعية هو مرهون بتغيير في العقيدة الدينية لتلك الشعوب، وبالطبع تغييراً من هذا القبيل لا يبدو أمراً سهل التحقق على المدى المنظور، ولكن إنشاء نموذج عقائدي مواز يبدو أمراً ممكناً خاصة لو كان هذا النموذج نابعاً في الأساس من الأديان والمذاهب القائمة على أرض الواقع في المنطقة؛ وهي أديان ومذاهب متقاربة في كثير من المفاهيم الأخلاقية والإنسانية وفي أحيان أخرى المفاهيم العقائدية”.

2- تفتيت ما تبقى من هوية عربية جامعة، ودمج إسرائيل عضويًا في المنطقة العربية، وفتح المجال أمامها للسيطرة والتحكم بدول وشعوب ومقدرات هذه المنطقة

3- فتح الباب على مصراعيه للتطبيع السياسي والثقافي مع إسرائيل، والتهيئة للتنازل المستقبلي عن مناطق أوسع من الشرق الأوسط وتدويلها بحجة أنها مناطق إبراهيمية، ليست حكرًا على جهة معينة.

4- تزييف التاريخ وتشويه وعي الأجيال الجديدة، حيث حاولت منظمة الأونروا فور وصول ترامب إلى السلطة حذف عبارة “القدس عاصمة فلسطين” من المقررات الدراسية للصف الأول إلى الرابع الابتدائي بمدارسها لتحل محلها عبارة “القدس المدينة الإبراهيمية”، كمحاولة لتغيير وتغييب هوية الأطفال خلال مرحلة التشكيل ليكونوا نواة التطبيق للمخطط المستقبلي، وتمهيدًا لزرع مصطلح الإبراهيمية.

دلالات تسمية اتفاق التطبيع الإسرائيلي الاماراتي البحريني بــ إبراهيم

لم تكن فكرة الاتفاقيات الإبراهيمية وليدة التحولات الراهنة إنما هي تجسيد لطرح قديم تبنته الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ الستينات، ويأتي تحقيق هذا الهدف مع توافر ما بدا أنه ظروف ملائمة وتشكل قواعد إقليمية جديدة فرضتها تحديات متواترة أتاحت فرصاً حاولت أطراف الاتفاق استغلالها.

كما أن الصراع العربي – الإسرائيلي لم يعد القضية التي تهم مختلف القوي الإقليمية بسبب مناخ الصراع العربي – العربي في عدد من الساحات (سوريا، واليمن، ليبيا، العراق) وقد جاء اتفاق ابراهام ليجسد هذا التحول.

وخلافاً عن الاتفاقيات السابقة بين الكيان الصهيوني والدول العربية والتي كانت تُسمي بأسماء المدن التي وقعت بها الاتفاقية مثل اتفاقية “كامب ديفيد” بين مصر والكيان الصهيوني، أطلق اسم اتفاق ابراهام على الاتفاقية الثلاثية بين الكيان الصهيوني والإمارات والبحرين.

وإطلاق هذا الاسم أثار أسئلة كثيرة حول دلالات تلك التسمية وخلفياتها، إذ لا يمكن النظر إليها بعيدًا من جذورها وخلفياتها الدينية، التي تكشف بوضوح مدى توظيف السياسي للأبعاد الدينية والتاريخية ما يسهل عليه تمرير أجنداته السياسية تحت غطاء ديني.

وتنص اتفاقيات إبراهيم المنشورة على موقع وزارة الخارجية الأمريكية بأن الموقعين على الاتفاقية يدركون أهمية الحفاظ على السلام وتعزيزه في الشرق الأوسط وحول العالم على أساس التفاهم المتبادل والتعايش، وكذلك احترام كرامة الإنسان وحريته، بما في ذلك الحرية الدينية، كما نشجع الجهود المبذولة لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات للنهوض بثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة والبشرية جمعاء.

كما تشير بنود المعاهدة إلى تطلع حكومتي البلدين (إسرائيل والإمارات) إلى “تحقيق رؤية منطقة شرق أوسط مستقرة وسلمية ومزدهرة لصالح جميع دول وشعوب المنطقة”، ورغبتهما في “إقامة السلام والعلاقات الدبلوماسية والودية والتعاون والتطبيع الكامل للعلاقات بينها وبين شعوبها”.

فلم يكن استدعاء اسم النبي إبراهيم عليه السلام وإطلاقه على الاتفاقية عبثاً، فتشير أستاذة العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، هبة جمال الدين إلى أن “المصطلح لم يخلق من أجل الدين والتسامح وإنما خُلق ليسيس بالأساس”.

وعلى مقربة من تلك الاستدعاءات الدينية، المثيرة للجدل، كان ترامب واضحا في كلمته آنذاك بالقول: “نجتمع هنا لتغيير مسار التاريخ بعد عقود من الصراع ونشهد فجراً لشرق أوسط جديد ودولاً عدة ستنضمّ لاحقاً إلى اتفاقات السلام”.

وقبل عام تقريباً من توقيع تلك الاتفاقية ففي ديسمبر 2019، مهًد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد لهذه الخطوة، بنشره تغريده على تويتر لتقرير لمجلة The Spectator البريطانية بعنوان “إصلاح الإسلام، تحالف عربي إسرائيلي يتشكل في الشرق الأوسط“، وأعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو نشرها على حسابه على “تويتر”، معرباً فيه عن سعادته لما “يتمّ من تنسيق بين إسرائيل وبعض الدول العربية”.

وجاءت الاتفاقية بعد أقل من عام على تغريدة بن زايد لتوضح ماذا كان يقصد بقوله “إصلاح الإسلام”، حين حملت الاتفاقية اسم (اتفاقيات إبراهيم)، وجاءت بصيغة الجمع إشارة إلى مجموع ما يفترض أن يتم توقيعه مع عدد من الدول العربية في المدى المنظور.

ويعود استخدام “السلام الإبراهيمي” إلى مناخات “كامب ديفيد”، وإلى دراسة نشرها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، تحت عنوان “دم إبراهيم “.

يقول كارتر، خلال مقابلاتي الطويلة مع رئيس الوزراء بيجين ومقابلاتي الأطول مع الرئيس السادات، تناقشنا في الديانات الثلاث المؤمنة بوجود الله، وتأثير تلك الديانات على العلاقات القديمة والحديثة بين شعوب الشرق الأوسط، وكذلك تأثيرها علينا كأفراد: فنحن الثلاثة نمثل اليهود والمسيحية والإسلام، ونحن نسعى لتحقيق السلام.

أهم دلالات إطلاق اتفاق ابراهام

يندرج حرص الإدارة الأمريكية على نعت اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، والاتفاقات التي تبشر بإنجازها في القريب العاجل بـ “اتفاق ابراهام” في إطار استراتيجية واضحة تهدف إلى محاولة بناء واختلاق رواية جديدة للصراع العربي –الإسرائيلي، واختلاق واقع جديد يقوم على إعادة تموضع “العدو” و”الحليف” في شبكة العلاقات التي تحكم العلاقات الإقليمية في المنطقة، ويشير إطلاق هذا المصطلح إلى عدة دلالات هامة منها:

-بناء شكل جديد للعلاقة بين العالم العربي والكيان الصهيوني، دون النظر إلى تاريخ الصراع بين العرب والصهاينة، وتقديمها على أنها علاقة بين الأديان الثلاثة، دون أن تتأثر هذه العلاقة بالظروف والتطورات التي قادت إلى ولادة الكيان الصهيوني على هذه الأرض، ودون النظر إلى سياساته ومخططاته التوسعية في المنطقة[20] والتي تهدف إلى التوسع المكاني والاندماج المجتمعي والهيمنة السياسية والاقتصادية في المنطقة.

– التسويق بأن الصراع في المنطقة هو صراع أديان ومذاهب؛ صراع مسلمين ويهود ومسيحيين، سنة وشيعة، وهكذا، وهي فكرة مستمدة من كتابات هنتنغتون، وخصوصاً “صراع الحضارات والثقافات”، وقبله برنارد لويس، ويمكن تسويته عبر أفكار من طينته، مثل الإبراهيمية، ومشاريع مختلفة، مثل كونفدرالية الأراضي المقدسة.

باختصار، يندرج حرص الرئيس الأمريكي السابق ترامب على نعت اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، والاتفاقات التي تبشر بإنجازها في القريب العاجل بـ “اتفاقات إبراهيم” في إطار استراتيجية واضحة وخطيرة تهدف إلى محاولة فبركة رواية جديدة للصراع، واختلاق سردية له تقوم على إعادة تموضع العدو والحليف في شبكة العلاقات التي تحكم العلاقات الإقليمية في المنطقة ككل.

المبحث الثالث: الإبراهيمية والتطور الصهيوني من اقامة الدولة إلى الاندماج

مر الكيان الصهيوني بمراحل عديدة وفق استراتيجية ورؤية واضحة لبناء الدولة وفق رؤية مؤسسيها، فكانت البداية بأفراد ثم مليشيات وعصابات ثم جيش ثم دولة، وتسعى لتوسعة هذا المخطط من خلال الانتشار والاندماج بين دول الشرق الأوسط، لذا تنتهج الآن ما يطلق عليه الدبلوماسية الروحية واستخدام مشروع الديانة الابراهيمية لتحقيق هذا الاندماج، وتغيير النظرة السلبية من الشعوب العربية والإسلامية.

فالتحوّلات الكبيرة التي ألمّت بالعالم وبالمنطقة، إلى جانب التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية الإسرائيلية قد دشّنت عهداً جديداً في العالم. فإذا كان انهيار الاتّحاد السوفياتي قد فتح أمام إسرائيل خزّان الهجرة اليهودية الروسية، فإن نتائج حرب الخليج الأولى عزّزت الخلل الحاصل في موازين القوى لصالح إسرائيل.

إلى جانب أن هذه التحوّلات الكبرى قد ألغت ظروف الحرب الباردة، ومعادلة قطبي الصراع، وكرّست في الوقت نفسه معادلة عالم أحادي القطب، كان له الأثر المباشر على الاستراتيجية العالمية بشكل عام والاستراتيجية الأميركية في المنطقة بوجه خاص.

مسارات الاندماج الصهيوني

انتهج الكيان الصهيوني مداخل ووسائل عديدة للاندماج في المجتمعات العربية بدءاً من استخدام القوة عبر الحروب العديدة التي خاضتها، ثم السعي لتوظيف الاقتصاد ورأس المال ثم اتفاقيات السلام لتنفيذ أجندتها التوسعية في المنطقة، ويحصر الباحث عماد الدين الشناوي أهم آليات الاستراتيجية الصهيونية للاندماج والانتشار في عدة نقاط أهمها:

1 -التطبيع السياسي والأمني مع الحكومات العربية، والعمل من خلاله على عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي والإنساني.

2 -التطبيع الثقافي، من خلال تطوير قنوات للتواصل مع الجمهور العربي لتغيير صورة الكيان الصهيوني العدوانية.

3 -التطبيع الاقتصادي، من خلال الترويج لنظريات “السلام الاقتصادي”.

4 -التطبيع الإعلامي، من خلال تصوير الصراع العربي “الإسرائيلي” على أنه صراع فلسطيني “إسرائيلي.

5 -التطبيع التكنولوجي، من خلال الترويج للتعاون التقني الذي تتفوق فيه إسرائيل وما يحققه من مكاسب للأنظمة الحاكمة العربية، وخصوصاُ البرمجيات التي تمكن هذه الأنظمة من البقاء، حيث يشكل بقاؤها مصلحة استراتيجية لإسرائيل.

الاقتصاد كمدخل للاندماج

وجد الزعماء الإسرائيليون في المؤتمرات الاقتصادية الإقليمية فرصتهم لتكريس إسرائيل في واقع المنطقة اقتصاديا، بعد أن ضمن مؤتمر مدريد اعترافاً سياسياً بوجودها من قبل معظم أطراف النظام العربي الرسمي، ومّهد لها اتفاق أوسلو جميع السبل للالتفاف على القضيّة الفلسطينية وإيجاد تسوية إقليمية في إطار الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية.

فشاركت في عدد من القمم الاقتصادية مثل، قمّة الدار البيضاء الاقتصادية 1994، مؤتمر عمّان الاقتصادي الإقليمي 1995، قمّة القاهرة الاقتصادية 1996، مؤتمر الدوحة الاقتصادي الإقليمي الرابع 1997.

ومازالت إسرائيل توظف تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي في تحقيق سياستها الاندماجية بشكل كبير فكان الاقتصاد مدخل رئيسي في اتفاقيات التطبيع المختلفة.

اتفاقيات التطبيع كمسار للاندماج

نجح الكيان الصهيوني في تحقيق اختراقات عديدة على مستوى الأنظمة السياسية في الدول العربي، فوقّعت مع بعض الدول اتفاقيات للتطبيع فكانت اتفاقية كامب ديفيد، في سبتمبر عام 1978، وكان من نتائج هذه الاتفاقية، تحييد مصر عن الصراع العربي الإسرائيلي، ثم اتفاقية أوسلو في أغسطس عام 1993، والتزمت فيها منظمة التحرير باعترافها بحق إسرائيل بالعيش الآمن في مقابل اعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير ممثلًا للشعب الفلسطيني، اتفاقية وادي عربة مع الأردن طبّعت هذه المعاهدة العلاقات بين البلدين وتناولت النزاعات الحدودية بينهما.

وفي أغسطس 2020، وقع اتفاق ابراهام بين الكيان الصهيوني والإمارات والبحرين، وما أن أعلن التطبيع رسمياً، حتى توالت الاتفاقيات التي تترجم هذا التطبيع عملياً في قطاعات عديدة، من الاستثمار والسياحة والطاقة إلى النقل والمصارف والتجارة والدفاع والزراعة وأسواق المال والتكنولوجيا.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخطط الاستراتيجية لإسرائيل، فإنَّ هذا الاتفاق لا يمثل سوى محطة في مسار توسُّع متكامل تطلَّبَ إنجازه عقودًا من الزمن؛ إذ انطلق مع معاهدة التطبيع الأولى، سنة 1978، مع مصر، ثم بعد سِتٍّ وعشرين سنة مع الأردن، وبعد سِتٍّ وعشرين سنة أخرى مع الإمارات التي اتَّخذت حُجَّةً لذلك إنقاذ الأراضي الفلسطينية من الضم.

إلَّا أنَّها بذلك أسهمت في إضعاف القضية بسحب البساط من المبادرة العربية للسلام، وإخراج القضية الفلسطينية من معادلة السلام في الشرق الأوسط.

كما أنَّ انضمام البحرين لم يكن سوى رسالة للمترددين من بقية الدول العربية؛ بأنَّ الإمارات ليست الوحيدة التي تسير في هذا المضمار، وأنَّ البحرين لم يكن لها أن تُـقْدِمَ على هذه الخطوة لولا نَيْلها الضوء الأخضر من المملكة العربية السعودية.

الديانة الابراهيمية مرحلة من مراحل الاندماج

كما ذكرنا سابقاً أن الكيان الصهيوني يهدف من تطبيق مشروع الديانة الابراهيمية بمعاونة حليفتها الإمارات إلى محاولة الاندماج المجتمعي والثقافي في دول الخليج ومنطقة الشرق الوسط.

ويبدو هذا جلياً من الاحتفاء الشديد من قٍبل إسرائيل من الزيارات التي يقوم بها بعض المواطنين من دول الخليج أو الالتحاق بجامعة إسرائيلية أو غيرها من المظاهر التي تسعى إسرائيل لجعلها أمراً طبيعيا واعتيادياً في المنطقة، فبعد أن حققت استراتيجيتها في التطبيع مع الحكومات تسعى الى البقية الباقية من الشعوب، من خلال بوابة وحدة الأديان والدين الابراهيمي.

الإمارات والتوظيف السياسي للدين

شهِدت العقودُ الماضية ظهور السّياسات ذات الصّبغة الدّينية في بعض الدول العلمانية – ظاهريّا، وهو ما يُسمّى بالاستغلال الذّرائعي للدّين، استغلالاً له دون تبنّيه حقيقةً، رغم تمظهرها العلماني الرّسمي.

ويتمّ استدعاء الدّين في كلّ مرّةٍ لإضفاء الشّرعية والولاء للحاكم، وتوظيف المشاعر الدّينية والقومية من أجل ترسيخ الرِّضى الأعمى لسلطة الدولة، مثل توظيف السّلفية المدخلية لضمان نصاب بقاء وليِّ الأمر بالشرعية الدّينية وعدم الخروج عليه، أو توظيف السّلفية الجهادية وصناعة التطرّف لضمان نصاب البقاء له بشرعية مكافحة الإرهاب، ومساومة الشعوب وتخييرها بين “الديمقراطية” والاستقرار”.

فتوظيف الدين ليس بالجديد عن العمل السياسي -بهدف تحقيق أهداف الدولة من خلال مخاطبة العقائد والتقاليد الدينية التي تمس القلب، وتعتبر معيار التمييز للحكم على الأمور، ومن ثم يمثل هذا الربط الضمان لخلق الأتباع والمؤيدين لها نفسيا بل وتشكيل رأى عام داعم ومساند لها.

وسعت الإمارات مع فترة صعودها السياسي منذ الألفية الجديدة إلى توظيف الدين لخدمة رؤاها وتوسعاتها وبناء نموذج ديني يخدمها وما السعي لتبني والتسويق للديانة الإبراهيمية إلا محطة من هذه المحطات التي تهدف من خلالها إلى زيادة نفوذها السياسي والإقليمي.

لماذا الصوفية.. الدور الأمريكي في طرحها

سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 البحث عن استراتيجيات ووسائل عديدة لمواجهة الإسلام الحركي، لذا انخرطت عسكرياً في المنطقة عبر أفغانستان والعراق وغيرها، كما سعت لتحقيق هذا التغيير من خلال محاولات تغيير الدين الإسلامي وجعله دين مستأنس يخدم أهدافها واستراتيجيتها في المنطقة.

منـذ صـدور تقريـر مؤسسـة رانـد الـذي صـدر سـنة ٢٠٠٧م، والـذي مكثـت مؤسسـة رانـد ثـلاث سـنوات في إعـداده، وعُنـون بــ: ” بنـاء شـبكات مسـلمة معتدلـة [28]Building Networks Muslim Moderate ” ” ولعل أهم ما ركز عليه التقرير هو تلـك الإشـارة الملحـة لـدور التصوف ومؤسساته في تذويب حـدة التبـاين الإيـديولوجي بـين الإسـلام والحضـارة الغربيـة، ويعتبر التقرير أن نشر الصوفية هي حل التباعد الفكري والأيدلوجي بين الشرق والغرب.

ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، وهم:

أولاً: العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين في الحياة، ويتماشون مع الرؤية الغربية للحياة والعالم، ولا يرى حرجاً في الاندماج التام في المنظومة القيمية للغرب.

ثانياً: “أعداء المشايخ” –كما يسميهم التقرير- ويقصد بهم هنا ” الأتاتوركيين ” – أنصار العلمانية التركي -.

ثالثًا: الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام، ويضيف في وصفهم

بوضوح هم من: يزورون الأضرحة، والمتصوفون ومن لا يجتهدون.

وورد في التقريــر “أنّ عمليــة تغيــير ديــن ليســت عمليــة ســهلة إلا أنها ممكنــة “، وأعطــى مثــالا بــالتحول مــن الإمبراطوريـة العثمانيـة إلى دولـة علمانيّة مثـل مـا حـدث في تركيـا!! وهـذا مـا جعلهـم يفكـرون في إيجـاد “إسـلام” يناسبهم، وذلك من خلال العمـل علـى خنـق “الإسـلام السني”.

كمـا ورد في التقريـر حـول الموضـوع نفسـه فقـرة جـاء فيهـا، “إنّ الصـوفيّة بمـا لـديها مـن طقـوس شـعريّة وموسـيقيّة وفلسفيّة، تمثل جسراً للخروج من الاندماج الديني.

كما تُعد دراسة “إسلام ديمقراطي مدني – الشركاء والموارد” لصاحبتها “شيريل بينارد” والذي أصدرته أيضاً مؤسسة راند،  من أبرز تلك الدراسات التي تناولت التسويق للصوفية والإسلام الأمريكي، والتي حثت من خلاله على تكوين شبكات من الشركاء في الشرق الأوسط تجمع بين الحداثيين والمتصوفة.

حيث يملك هذان التوجهان -بحسب التقرير- قابلية التماهي مع القيم الغربية والتبشير بها في المجتمعات العربية، ومن ثم الإمكانية التي يمكن أن يُتيحاها بسحب البساط من تحت أرجل الأصوليين السلفيين والإخوان والذين دُعموا، بحسب التقرير، في الحقبة السابقة بموارد مالية وإعلام مكّنتهم من النفاذ إلى المجال العام ومؤسسات التعليم في الشرق الأوسط.

تقول بينارد: “يُعد الحداثيون -من الناحية الأيديولوجية- أجدر وأوثق الفئات بحمل رسالة تطوير الإسلام الديمقراطي ونشرها، ولكنهم، على أرض الواقع، يعملون تحت ضغط عدد من المعوقات تُضعف من فعاليتهم”، ولتلافي هذا الضعف لا بد من خلق ظهير صوفي مُتسامح مع الإسلام تُريده أميركا.

تواصل بينارد: “سوف نُسلك الصوفية هنا مع الحداثيين، إذ يمثل التصوف التفسير الفكري المنفتح للإسلام. وينبغي دعم التأثير الصوفي في المدارس والمقررات التعليمية والمعايير الاجتماعية والأخلاقية والحياة الثقافية، فعن طريق الشعر والموسيقى والفلسفة، الذين ينفرد بهم التصوف، تستطيع الممارسة الصوفية القيام بدور الجسر الذي ينقل هذه المجتمعات خارج نطاق التأثيرات الدينية”.

بذلك، اتُّخذت الصوفية بديلا عن الإسلام الحركي التي بدأ انتشار واسع في العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد ارتأت فيها الولايات المتحدة “البديل الثقافي والاجتماعي والتصور الديني الأساسي لمواجهة الأيديولوجية الإسلامية الصلبة التي هيمنت على العالم الإسلامي، وذلك عبر مفاهيم الاستقلال والتعددية واحترام الأديان والعقائد الأخرى”.

وقد حرصت أميركا وفق ذلك التوجه على الظهور مع الحليف الصوفي الجديد في البلدان العربية، حيث حضر عدد من السفراء الأمريكان الاحتفالات الصوفية بالمولد النبوي وقدموا معونات لترميم الأضرحة حول العالم.

هـذا الـدور السياسـي للتصـوف هـو الـذي تتجـه إليـه أغلـب التوصـيات والسياسـات الغربيـة، فقـد أوصـت لجنـة الكونغرس الخاصـة بالحريـات الدينيـة بـأن تقـوم الـدول العربيـة بتشـجيع الحركــات الصــوفية، فالزهــد في الــدنيا والانصــراف عنهـا وعــن عــالم السياســة يضــعف ولا شــك صــلابة مقاومة الاستعمار والتبعية الغربية، ومن ثم فعداء الغرب للإسلام لـيس عـداء في المطلـق، وإنمـا هـو عـداء للإسـلام المقـاوم.

الإمارات والتوظيف السياسي للمجموعات الدينية

مثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 منعطفاً خطيراً في سياسة الإمارات، فقد توافقت رؤية الامارات مع استراتيجية الولايات المتحدة على العمل على تغيير المعتقدات والأفكار الدينية المرتبطة بالإسلام في الشرق الأوسط، فانتهجت الامارات وسائل عدة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، من خلال بناء مؤسسات فكرية ودعوية وتبني مشايخ الطرق الصوفية والسعي لنشر وتسويق نمط جديد من الإسلام بدعوى نشر التسامح الديني كمبرر أيديولوجي للمعركة التي خاضتها صد تيارات الإسلام السياسي.

هذه السياسة تستخدمها أبو ظبي لكسب دعم الدول الغربية التي تنظر بإيجابية إلى الجهود الإماراتية “لمكافحة التطرف العنيف” ولغض طرفها عن الانتهاكات الحقوقية العديدة التي تمارسها الامارات في حربها المزعومة تلك. كما هو الحال مع استراتيجية الترويج الثقافي التي تركز على المتاحف (متحف اللوفر أبو ظبي) والجامعات (السوربون أبو ظبي أو جامعة نيويورك).

فقد أدركت القيادات في الإمارات أن الدين عامل مهم ومؤثر في مجال السيطرة والانتشار في الشرق الأوسط لذا سعت لبناء وتسويق نماذج دعوية مرتبطة بها، توظفها كما تشاء وفقاً لأغراضها السياسية وبحثاً عن مقارعة منافستها المملكة العربية السعودية في أهم عوامل قوتها الإقليمية وهو الدين.

من هنا، قدمت أبوظبي معادلتها الجديدة المتماهية مع الإسلام المعتدل وفق المنظور الأمريكي، إذ قامت بدعم مؤسسات الإسلام الحداثي وعلى رأسها منظمة “مؤمنون بلا حدود” بالتوازي مع دعم التصوف العالمي، في سعي منها لتأسيس مرجعية دينية سُنية موحدة في العالم الإسلامي تكون تحت سيطرتها وتسير وفق رؤاها، فأسست الإمارات عدد من المؤسسات لتحقيق أهدافها تلك منها:

أولاً: مؤسسة طابة

في عام 2005 ظهرت مؤسسة “طابة”، والتي تُعد أقدم مؤسسات التصوف التي دشنتها أبوظبي، جامعةً فيها رموز الصوفية من الشام والمغرب ومصر واليمن بهدف إنشاء محور سُني معتدل يجابه الحركة الاسلامية، وتولى مسئوليتها الحبيب على الجفري الصوفي اليمني.

وقد عرّفت المؤسسة نفسها باعتبارها “مؤسسة غير ربحية تسعى إلى تقديم مقترحات وتوصيات لقادة الرأي لاتخاذ نهج حكيم نافع للمجتمع”. وعملت منذ تأسيسها على مد الجسور بين المؤسسات الثقافية والصوفية حول العالم، وكونت المؤسسة شراكات مع مؤسسات مختلفة مثل “دار زايد للثقافة الإسلامية” بالإمارات، و”دار المصطفى” باليمن، و”دار الحكمة” في بروكسل، و”كلية الدراسات الإسلامية” في صنعاء، و”قناة المدينة الفضائية”، ومشروع “إحياء التعليم الشرعي في شرق أفريقيا”، وبرنامج “طابة لتطوير الكفاءات”.

وكان أبرز تجليات نشاطات المؤسسة مؤتمر “من هم أهل السنة والجماعة؟” الذي عُقد في العاصمة الشيشانية غروزني عام 2016، ودُعي إليه 200 عالم سني من مختلف الدول العربية والإسلامية، واعتبَرت توصيات المؤتمر، السلفية والوهابية وجماعة الإخوان المسلمين فرقاً طائفية دخيلة على أهل السنة والجماعة.

كما عقدت شراكة مع مؤسسة تمبلتون الأمريكية حيث تم الاتفاق على الشراكة البحثية في موضوعات محددة مثل ” التطور والتجديد والتسامح والإبداع وحرية الرأي والمحبة والدعوة للحوار بين العلماء والفلاسفة وعلماء اللاهوت وعلماء الدين الإسلامي والدخول في حوار الأديان وحوار الحضارات وحوار الثقافات لتعميق التفاهم بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية”، ولا شك أن هذه الموضوعات الواضحة يقصد بها سلخ الإسلام من حقيقته ليكون النموذج الذي يرضى عنه الغرب.

وتتضح ملامح خطورة هذه المؤسسة من خلال تماهيها مع الأنظمة ويظهر ذلك في وجود ممارسات شاذة عن الخط الإسلامي مثل موقفهم من قضية الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم في الدانمرك بالإضافة إلى شرعنة التطبيع السياسي والديني مع الصهاينة من خلال أنشطتهم التي قاموا بها.

فمؤسسة طابة ليست إلا تنفيذا كاملا للتصور الأمريكي والغربي للإسلام الذي  يسعون لتطبيقه في الشرق الأوسط والذي يتنزع من الإسلام نموذج مقاومة التغريب، وذلك عبر  التمكين لنموذج الصوفية الذي يتم تدويلها وجعلها ظاهرة عالمية تجمع شتات الأديان والعقائد مما يمكن من توظيف الصوفية سياسيا بدخولها ميدان السياسة – رغم ادعاء نبذ الصوفية لكل ما في الدنيا – فيمكن التأثير بها على صناع القرار في العالم الإسلامي من جهة والتأثير المقابل على الشعوب من جهة أخرى، فتكون الصوفية هي حلقة الوصل المقبولة عالميا بين الإسلام والغرب.

ثانياً: منتدى “تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية”

تأسس في مارس 2014 ويرأسه الشيخ الموريتاني عبد الله بن محفوظ بن بيه، وقدم المنتدى نفسه باعتباره “ملتقى عالميا للسِّلم ونبذ العنف في المجتمعات الإسلامية، ومن ضمن أهدافه، إحياء روح التعايش التي كانت سائدة في المجتمعات الإسلامية؛ وإحياء القيم الإنسانية بين جميع الأديان؛ وتعزيز دور الإمارات في نشر السلام والأمن والازدهار فيها المجتمعات المسلمة وغير المسلمة على حد سواء (PEACEMS 2014).

وضم المنتدى عددا كبيرا من رموز الصوفية حول العالم، من بينهم مفتي مصر شوقي علام، بالإضافة إلى رموز أكاديمية مثل اللبناني رضوان السيد، وعددا من أبناء المؤسسات الدينية في السعودية والإمارات والكويت وفلسطين والبوسنة ومالي وأميركا وأوروبا.

ونص البيان الختامي للمؤتمر على: “أهمية إعادة تثبيت سلطة المرجعية في الأمة”، وبعبارة أخرى: “تأسيس مرجعية جديدة للأمة” بعيدا عن الإسلام الحركي، وإنما بإسلام صوفي مدعوم من أبوظبي.

ثالثاً: مجلس حكماء المسلمين

تأسس في يوليو 2014 ووفقاً لبيانه التأسيسي فهي هيئة دوليَّة مستقلَّة، تهدف إلى تعزيز السِّلم في المجتمعات المسلمة، بهدف المساهمة في تعزيز السِّلم في المجتمعات المسلمة، وكسر حدَّة الاضطرابات والحروب التي سادت مجتمعات كثيرة من الأمَّة الإسلاميَّة في الآونة الأخيرة، ويترأسه الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، والشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة.

كما تمول الإمارات العديد من المراكز التي بزعم محاربة التطرف، والتي تهدف بشكل أساسي إلى محاربة الإسلام السياسي، ومن أهم هذه المراكز: –

مركز “هداية ”

افتتحه عبدالله بن زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي في ديسمبر 2012، ويعمل المركز على بناء الشراكات مع مؤسسات عدة تعمل في مجال مكافحة التطرف العنيف، ويركز على مجالات مهمة مثل: الدبلوماسية الرياضية والثقافية، ومكافحة التطرف العنيف عبر المناهج التربوية، ونبذ الراديكالية في السجون، ودعم ضحايا الإرهاب.

مركز صواب

في يوليو 2015، أطلقت الإمارات بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية “مركز صواب”، وهو مبادرة تفاعلية للتراسل الإلكتروني، تهدف إلى دعم جهود التحالف الدولي في حربه ضد التطرف والإرهاب.

وأطلق المركز، كل من الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية السابق، وريتشارد ستنغل، وكيل وزارة الخارجية الأميركية للدبلوماسية العامة والشؤون العامة في أبو ظبي.

ويهدف “مركز صواب” إلى تسخير وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعي على شبكة الإنترنت من أجل تصويب الأفكار الخاطئة ووضعها في منظورها الصحيح، وإتاحة مجال أوسع لإسماع الأصوات المعتدلة التي غالباً ما تضيع وسط ضجيج الأفكار المغلوطة التي يروجها أصحاب الفكر المتطرف.

المعهد الدولي للتسامح

يهدف المعهد الدولي للتسامح الذي أطلقته إلى بث روح التسامح في المجتمع، وتعزيز مكانة دولة الإمارات إقليمياً ودولياً كنموذج في التسامح، وترسيخ ثقافة الانفتاح والحوار الحضاري، ونبذ التعصب والتطرف والانغلاق الفكري، وكل مظاهر التمييز بين الناس بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة.

ويتضمن قانون إنشاء المعهد الدولي للتسامح إطلاق جائزة تسمى “جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للتسامح” يتم من خلالها تكريم الفئات والجهات التي لها إسهامات متميزة في ترسيخ قيم التسامح على المستويين الوطني والدولي، وتشجيع الحوار بين الأديان وإبراز الصورة الحقيقية للإسلام باعتباره دين تسامح وسلام.

دعم المدخلية الجامية

عُرفت المدخلية الجامية بقربها الشديد من السلطة والأنظمة الحاكمة، ومصادمتها للحركات الإصلاحية الإسلامية السياسة الأخرى، انتشرت هذه الحركة في السعودية بدعم من الأسرة الحاكمة التي رأت فيها تيارا مناسبا يرفض الخوض في السياسة.

ووظفت الامارات رجال الجامية في اليمن إلى جانبها فقد تحالف المداخلة مع القوات الإماراتية ضد الرئيس عبد ربه منصور هادي، يعتبر هاني بن بريك أحد رموز المدخليّة، والذي تمّ فرضه وزيرًا في الحكومة ‏‏اليمنيّة من قبل الإمارات، وتمّ تكليفه بالإشراف على تشكيل قوات الحزام ‏الأمني، ‏التابعة فعليًّا للإمارات إشرافًا وإدارة وتمويلًا.

كما تقوم الامارات بدعم وتمويل عدد من المراكز البحثية لمواجهة بالحركات الإسلامي مثل “المزماة” والمسبار وغيرهم، كما انها تقوم بتمويل أربعة مراكز حقوقية على الأقل في أوروبا تباشر عدة مهام، منها مواجهة الإسلام السياسي والمساهمة في الحرب ضد الإرهاب ومن هذه المراكز: الشبكة العالمية للحقوق والتنمية ولها مكتبان في أوسلو وجينيف، المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان فى جينيف ــ مركز جينيف لحقوق الإنسان والحوار العالمي.

ويرى بعض الباحثين بأنه إذا كان يُنظر لمبادرات العلاقات العامة التي تدعي تعزيز قيم السلام وحرية المعتقد على أنها مجرد مناورات سياسية مثيرة للسخرية، فإن المشاركين في مثل هذه المؤتمرات، سواء كانوا علماء أم حكومات غربية صديقة، يجب أن يتطرقوا إلى الحديث عن الرعاة الحكوميين لهذه المبادرات الذين يعدّون أكثر المجرمين فظاعة ضد هذه القيم.

فالمحرّك الأساسي للدين الإماراتي هو السياسة، وفي سبيلها تمكّنت الإمارات من عقد تحالف بين التنوير العقلاني والفكر التقليدي الديني، على رغم تناقضهما الظاهر، يمكن فهم الارتباط بين دعم مؤسسات دينية تقليدية محافظة، إلى جانب مؤسسات تقدّمية ليبرالية دينياً، باستقراء مناقشات المؤتمر الثاني لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، الذي شهدته مدينة مراكش المغربية عام 2014، تحت عنوان “الخطاب الديني: إشكالياته وتحديات التجديد”، حيث نوقشت أطروحتان فكريتان عن الدين والسياسة في الوطن العربي: الأطروحة الأولى وهي العقلنة والتنوير ونقد الموروث الديني وتفكيك أنساق تفكيره مثلما تفعل المؤسسة المذكورة، وأطروحة أخرى عن ضرورة تطوير المؤسسة الدينية التقليدية وتعزيز الثقة بها، باعتبارها صمام أمان الاستقرار الديني والسياسي في المنطقة.

فاستخدام الدين وتوظيفه السياسي نهج انتهجته الامارات منذ الألفية الجديدة وهو نهج سياسي أكثر منه نهج ديني ويوضح هذا التفسير هو انتهاج الليبرالية وفي ذات الوقت انتهاج الصوفية والجاميه والمؤسسات الدينية التقليدية، وأخيراً ويبدو أنها ليس آخراً الديانة الابراهيمية التي تسعى لتسويقها وتبنيها من خلال المؤسسات والفعاليات المرتبطة بها، فالقيادة الإماراتية تعتمد الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) كنهج سياسي لها.

ويرى الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الدفاعية في كلية “King’s College” في لندن أندرياس كريج أن موقف الامارات من الصوفية يتلخص في عدة نقاط أهما:

أولا، أن القلق من الإسلام السياسي وسط النخبة الحاكمة في الإمارات نابع من الاعتقاد بأن سرديات الإسلام عندما يتم دمجها بالسياسة فإنه لا يمكن للدولة أو النظام السيطرة عليها، بشكل يخلف دينامية سياسية- اجتماعية قادرة على تقويض الوضع القائم.

ثانيا، الإمارات حاولت تنصيب ودعم الأنظمة التي تستطيع احتواء المجتمع المدني، ودعمت الحكم العسكري بشكل يحصنها من جاذبية الإسلام السياسي، لكن كانت الإمارات بحاجة إلى سرد بديل، يستطيع (تبييض) عمليات القمع ومكافحة الإرهاب ونشر (التسامح) العلماني. ويصل إلى أن “الصوفية”، التي تعد هادئة، وتبتعد عن السياسة، ومرتبطة بقيم الإسلام، قدمت للإماراتيين ما يبحثون عنه من سرد بديل مقبول للذائقة الغربية.

ثالثا، أبو ظبي، باعتبارها القائدة في مكافحة الإرهاب، استخدمت الصوفية وبمهارة لتقديمها على أنها (الإسلام الحقيقي) والقادرة على علاج التطرف النابع من السلفية، وفي الوقت ذاته تقديم رؤية وجودية ساذجة لمكافحة التطرف، تقوم في الأساس على البعد اللاهوتي، ما يعني بالضرورة تجاهل الأدلة العملية للعوامل السياسية والاجتماعية التي تدفع إلى التطرف، ومن أجل هذا أقامت أبو ظبي مراكز دعوية في ليبيا ومصر والإمارات، التي أوكلت لها مهمة نشر النسخة من الإسلام التي تبدو في النظرة الأولى هادئة، مع أن النظرة القريبة منها تكشف عن تسيسيها واستخدامها أداة، ولا تختلف عن بقية أشكال الإسلام السياسي الأخرى.

الدور الإماراتي الأسباب والدوافع

يُمثل الدين أحد الهواجس الرئيسية في فكر قادة الجيل الثاني في الامارات، وساعد على بناء هذا الهاجس التربية الغربية والموقف العلماني من الدين، والذي تزامن مع صعود الجماعات المتشددة مثل القاعدة وداعش وغيرها.

ونظراً لأهمية الدين في منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها الإمارات، فقد رأى حكام الامارات أن السبيل الوحيد لتحقيق رؤيتهم وأهدافهم (والتي يمكن حصرها في عدة أهداف أهمها تحقيق الهيمنة في المنطقة ومواجهة الإسلام السياسي وكذلك فرض نموذج ليبرالي متسلط معاد للدين) هو نموذج ديني داعم لتلك الرؤية والتي تتناقض مع مفهوم الدين الصحيح.

لذا رحبت الامارات بمشروع الديانة الابراهيمية الجديد وعملت على تبنيه وتسويقه من خلال مسارات عدة كان أهمها التطبيع مع الكيان الصهيوني وفتح الامارات أمام الصهاينة لتنفيذ استراتيجيتهم الجديدة للاندماج المجتمعي في المنطقة العربية، ففيما يبدو أنها تشكل رأس حربة في مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، الذي تختفي فيه معالم العروبة والإسلام لصالح الرؤية الصهيونية، وما (البيت الإبراهيمي) إلاّ إحدى المؤسسات المناط بها العمل لتمكين مشروع الديانة الإبراهيمية الجديدة.

فاتخذت الامارات عدد من الوسائل للتسويق لهذه الديانة بدعوى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية ومواجهة المنظمات الإرهابية كما ذكرنا في المبحث السابق، فتعتبر الإمارات أهم مروجي الدين الإبراهيمي وبرز ذلك من خلال إنشائها العديد من الكيانات والمؤسسات والمبادرات التي تدعو إلى الالتفاف حول ما يسمى بالديانات الإبراهيمية الثلاث.

ففي النسخة السادسة من منتدى السلم الذي عقد في أبو ظبي في الفترة بين 9 و11 ديسمبر 2019 أطلقت الإمارات “ميثاق حلف الفضول الجديد” والذي وقع عليه العديد من القيادات الدينية من اليهود والمسلمين والمسيحيين.

وجاء في نصه: إن المتعاهدين على هذا الحلف إذ يؤمنون بالقيم المشتركة بين أديان العائلة الإبراهيمية، وسواها من الحقوق الإنسانية الفطرية التي يتمتع بها كل البشر وإذ يؤكدون أن لديانات العائلة الإبراهيمية تراثاً عقدياً وأخلاقياً مشتركاً ومتمايزاً في ذات الوقت، وكلها تثمن القيم الإنسانية التي تشترط السلام والاحترام المتبادل والتسامح من أجل الازدهار، وبأن التعاون والتنسيق بين الناس من كل الأديان والمعتقدات جدير بأن يوطد دعائم السلم في العالم.

كما شارك رئيس مجلس الإفتاء الشرعي ورئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” الشيخ عبدالله بن بيه في “ملتقى المبادرة الإبراهيمية” الذي نظمته الخارجية الأميركية في 3 ديسمبر 2020، وقال خلال كلمة له في الملتقى: “إن ميثاق حلف الفضول الجديد الذي أصلته العائلة الإبراهيمية في 2019 في أبو ظبي يمكن أن يشكل مرجعية دينية قوية لهذه الانطلاقة الجديدة”.

وأضاف بن بيه،  «يرتكز ميثاق الحلف الجديد في مرجعيته على الأرضية الصلبة التي تشكلها المشتركات الخاصة بديانات العائلة الإبراهيمية، وهي مشتركات الإيمان، المبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، تلك المشتركات تدور حول ما سماه الفقهاء المسلمون بالضروريات الـ5، وهى ضرورة الدين وضرورة الحياة وضرورة العقل وضرورة الملكية وضرورة العائلة».

كما أكد بن بيه، خلال مشاركته في المؤتمر الافتراضي الدولي ” دور العائلة الإبراهيمية في تعزيز السلام في العالم” على أهمية أدوار أتباع أديان العائلة الإبراهيمية في نشر قيم السلم وتعزيزه في العالم، مضيفا أن “أبناء العائلة الإبراهيمية يتشاركون في الرواية الأصيلة للقيم والفضيلة وأصول الأخلاق التي تؤسّس للسلام والتعايش بين مختلف الشعوب”.

وفي فبراير 2019 أطلقت الامارات برعاية بن زايد المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية الذي ينظمه مجلس حكماء المسلمين بمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية وإعلامية من مختلف دول العالم، وهدف المؤتمر – الذي تزامن مع زيارة كلاً من البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف للإمارات – إلى التصدي للتطرف الفكري وسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة.

كما رعت الإمارات توقيع وثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”، التي وقعها بابا الكنيسة الكاثوليكية مع شيخ الأزهر في أبو ظبي في 4 فبراير 2019، والتي يصفها البعض بأنها أحد مخرجات أدوات الفكر الإبراهيمي، ووقع على الوثيقة أكثر من 400 من قيادات وممثلي الأديان من مختلف دول العالم وتبنتها الأمم المتحدة وجعلت من هذا التاريخ يوما عالميا لـ “الأخوة الإنسانية”.

وفي 5 فبراير 2019، احتضنت أبوظبي أول قداس بابوي في شبه الجزيرة العربية برئاسة بابا الفاتيكان، بإستاد مدينة زايد الرياضية في أبوظبي، ضمن زيارته إلى الإمارات العربية المتحدة، لتعزيز الحوار بين الأديان.

مشروع بيت العائلة الإبراهيمية

يٌعد مشروع “بيت العائلة الابراهيمية” أهم مظاهر التسويق الاماراتي للديانة الابراهيمية، والذي كشفت عنه خلال الاجتماع الثاني للجنة العليا للأخوة الإنسانية والذي عٌقد في مدينة نيويورك الأمريكية في 20 سبتمبر 2019، فقد كشفت اللجنة عن مشروع بيت العائلة الإبراهيمية، والذي سيضم كنيسة، ومسجد، وكنيس تحت سقف صرح واحد، وذلك “ليشكل للمرة الأولى مجتمعاً مشتركاً تتعزز فيه ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات”.

ومن المقرر تشييده في جزيرة السعديات  بأبوظبي، كما سيحتضن المبني  برامج تعليمية، وفعاليات متنوعة هدفها تعزيز التبادل والتعاون الثقافي والإنساني، وبدأت حالياً الخطوات الأولى لتنفيذ المشروع، وسيتم افتتاحه في عام 2022.

ويمثل مركز العائلة الإبراهيمية في الإمارات من أنشط وأهم مراكز التبشير بالديانة الجديدة، وقد اعتبره الداعية الإماراتي (من أصول أردنية) وسيم يوسف قبلة المحبين، وحاول يوسف إضفاء شرعية للبناء الجديد بتغريداته قائلًا البيت الإبراهيمي هو صوت الله الذي يعلو لكل الأديان في سماء أبو ظبي، ورسالة البيت الإبراهيمي أن اللــه للجميع ولو اختلفت الطرق”.

ويرى المراقبون أن مشروع البيت الإبراهيميّ وإن بدا أنه سيضم الأديان الإبراهيمية فقط فإنه لن يقف عند هذا بل سيكون له دور بارز في التعايش مع الديانات الوثنية كالبوذية والهندوسية وهو ما يتم بالفعل من خلال بناء معابد للبوذية والهندوسية وإن كانت في أماكن أخرى داخل الإمارات.

ومن هذا يتبين إن خطورة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، ليس على المستوى السياسي أو العسكري، إنما خطورة تطبيع أبو ظبي تكمن في قيامه على أساسٍ ديني.

مبادرات التسامح غطاء لتغيير الهوية الدينية

انتهجت الامارات ما أطلقت عليه “مبادرات التسامح” كوسيلة لفرض رؤيتها حول الدين ووسيلة من وجهة نظر قادتها لمواجهة الحركات الإسلامية فأطلقت عدد من المبادرات لدعم هذه الرؤية، ففي 15 ديسمبر 2018، أعلن الشيخ خليفة رئيس الدولة، عام 2019 عاماً للتسامح.

وفي نوفمبر 2017، وجه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بتسمية أجمل جسر مشاة في إمارة دبي على القناة المائية الجديدة بجسر التسامح، وذلك لإبراز قيمة التسامح في دولة الإمارات، كما أطلق الشيخ محمد بن زايد اسم مريم أم عيسى “عليهما السلام” على مسجده في منطقه المشرف بزعم ترسيخ الصلات الإنسانية بين أتباع الديانات.

وتم استحداث منصب وزير دولة للتسامح لأول مرة في الإمارات في فبراير 2016، وفي يوليو 2020، تم تعديل اسم الوزارة لتصبح وزارة التسامح والتعايش، كما اعتمد مجلس الوزراء في يونيو 2016 البرنامج الوطني للتسامح، كما تحتضن الإمارات عدة كنائس ومعابد مثل البوذية وغيرها.

لقد تم استخدام دعوات «التسامح» الديني، عمليا، كمقدمة لتسويق التطبيع، وكان ذلك واضحا مع استخدام عنوان «اتفاقات أبراهام»، فإسرائيل، حسب هذا الإطار، ليست دولة احتلال واستيطان بل دولة «يهودية»، وهذه الديانة تعتبر الأولى في شجرة الديانات الإبراهيمية، التي تضم أيضا المسيحية والإسلام.

ويرى المراقبون أن مبادرات التسامح هذه ماهي إلا دعوات للتسويق الإعلامي والدولي فقط فواقع حقوق الانسان داخل الامارات ليس بخافٍ على أحد، فالإمارات كما تصفها المنظمات الحقوقية الدولية واقع مأسوي لحقوق الإنسان.

أسباب ودوافع الامارات

يمكن حصر عدد من الأسباب التي قد تكون وراء تبني الإمارات مشروع الديانة اليهودية من هذه الأسباب

أولاً: نظرة قادة الامارات للدين

تمثل نظرة قادة الجيل الثاني من قيادة الامارات تجاه الدين محرك رئيسي في تبنيهم للترويج للصوفية والجامية تارة والديانة الابراهيمية تارة أخرى، فقادة الامارات يريدون منطقة شرق أوسط علمانية بعيدة عن الدين، وانتهج قادة الامارات استراتيجية طويلة المدى لتحقيق هذه الرؤية بدءاً من توظيف الجماعات الدينية الصوفية والجامية وغيرها الى السعي لتسويق الابراهيمية التي يتم فيها نزع الأديان من روحها ومبادئها الحقيقية بدعوى فرض السلام.

فيرى قادة الامارات أن مختلف ألوان الطيف الإسلامي متشابهة، بل وتتشارك في نفس الهدف، وهو إرساء خلافة يقوم فيها القرآن مقام الدستور، ويرى بن زايد أن لمنطقة الشرق الأوسط خيارين لا ثالث لهما: إما سلطة أكثر عنفا أو كارثة حتمية.

وخلال مقابلة تليفزيونية أعطى السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة تبريرا مخالفا لتوقعات الكثيرين حول أصل الخلاف بين بلاده وحلفائها، وقال العتيبة بالنص إن «الأزمة الخليجية هي بالأساس أزمة رؤية متناقضة بيننا وبين قطر تجاه مستقبل الشرق الأوسط»، وأضاف العتيبة «نحن نريد شرقا أوسطيا أكثر علمانية وأكثر استقرارا ورخاء، عن طريق حكومات قوية».

فصناع القرار الإماراتيون لديهم إيمان عميق بأهمية الفصل بين الدين والدولة، لذا ركزوا جهودهم في التخلص من الحركات الإسلامية في الداخل، والتصدي لهم في الخارج، إذ تكمن غايتهم في إضعاف شبكات الإسلام السياسي، خشية عودتها مرة أخرى إلى الحياة داخل البلاد، أو انتقال أي مؤشرات وملامح من ثورات الربيع العربي إلى الإمارات.

وبتحليل إستراتيجية أبوظبي لمحاربة تيار الإسلام السياسي يمكن القول إنها استندت إلى ركيزتين أساسيتين:

أولا: دعم أنظمة سياسية تدين بالعداء لتيارات الإسلام السياسي وممثلي الثورات المضادة، كما هو الأمر في ليبيا حفتر وفي مصر السيسي.

ثانيا: إنشاء شبكة دينية لنشر النسخة الإماراتية للإسلام بما يتوافق مع أجندة أبوظبي السياسية داخليا وخارجيا، وذلك عبر عدد من المنظمات الدينية كمؤسسة طابا الصوفية ومجلس حكماء المسلمين بجانب هيئات أخرى كمنتدى تعزيز السلم ومؤسسة مؤمنون بلا حدود.

بجانب اختيار رموز مؤثرين داخل التيار الديني كسفراء لهذا التوجه، كالشيخ الصوفي الشهير الحبيب علي الجفري، وأحمد الطيب شيخ الأزهر، ثم بعد ذلك وسيم يوسف الذي كان موجها أكثر لفئة الشباب الذين قد لا يهتمون كثيرا بالمعارك العقدية والفكرية والأيديولوجية، بل يبحثون عن خطاب شبابي مرن أقرب ما يكون لصيَغ التنمية البشرية من الدروس الدينية.

فهاجس مواجهة حركات الإسلام السياسي دافع رئيسي في تبني تسويق الديانة الابراهيمية كمحاولة لبحث عن منطقة خالية من أفكار المقاومة والتحرر والعدالة حتى يستتب الأمر لحكام الامارات داخليا وخارجياً.

ثانياً: الهيمنة على المنطقة من خلال فرض نموذج ديني داعم للسلطة

في إطار سعيها للهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط ولتكون لها الغلبة السياسية والاقتصادية أدرك قادة الجيل الثاني أن الدين كما أنه محرك رئيسي للمجتمعات في المنطقة العربية والإسلامية فهو مدخل للتغيير لذا سعت الامارات لتوظيف الدين كمدخل للهيمنة من جهة ومجال لسحب السيطرة الدينية من منافستها التقليدية السعودية من جهة أخرى، فالإمارات لا تسعى فقط لتحقيق المنافسة الاقتصادية بل تريد أن تكون النموذج الليبرالي القدوة في المنطقة ولن يتسنى لها ذلك إلا من خلال السيطرة على عقيدة وأفكار شعوب المنطقة، وذلك من خلال طرح جديد يبدو في ظاهره أنه لا يتعارض مع الدين الإسلامي.

وفي إطار مساعيها لتشكيل “فكر إسلامي” يخدم أجندتها الداخلية والخارجية؛ اتجهت الإمارات لدعم التيار الصوفي، ثم التسويق للديانة الابراهيمية وخلق شبكاتها الخاصة من المؤسسات والمنظمات البديلة، كما تسعى الإمارات لتوظيف رجال السلطان من نوعين رئيسيين، الأول يرى أن طاعة ولي الأمر واجبة مهما بلغ طغيانه تجنُّبا للفوضى، وأن الدين يجب ألا يتدخَّل في السياسة، وأن الروحانيات هي الأساس، ووفق هذا المنطق، فلا بأس إن كان هؤلاء يدَّعون أنهم على المذهب السلفي أو الصوفي. ونوع ثانٍ يُصنع على عين رجال السلطة ليواجه الطرف المُستبعد من الإسلاميين والدعاة الذين يرون أن لهم دورا سياسيا وإصلاحيا في مجتمعاتهم وبلدانهم”.

فالإمارات تسعي لتطبيق نموذج ديني جديد تستطيع من خلاله الهيمنة الدينية من خلال علمائها ومؤسساتها المتعددة، كما هيمنت اقتصادياً من خلال نفطها، كما أنها تسعي إلى إظهار أنها الأقدر والأجدر بتنفيذ المخططات الأمريكية والصهيونية في المنطقة والتي بالطبع تتوافق مع رؤية قادتها.

التداعيات والمخاطر لمشروع الديانة الإبراهيمية

يحمل الفكر الإبراهيمي في طياته مخططا لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي تتم من خلاله السيطرة على المنطقة وإقامة تطبيع شعبي عبر تغييب الأجيال الجديدة عن تعاليم دينهم، وتكمن الخطورة في محاولة إعادة تشكيل الوعي الاسلامي والعربي والفلسطيني ليكون أكثر تقبلاً لوجود اسرائيل المحتلة، وبما يخدم تنفيذ مخططاتها.

وقد حذر شيخ الأزهر أحمد الطيب من تداعيات هذه الدعوات فقال إن الدعوة لما يسمى “الدين الإبراهيمي” هي دعوة لمصادرة حرية الاعتقاد والإيمان والاختيار، مؤكدا أن اجتماع الناس على دين واحد أو رسالة سماوية واحدة أمر مستحيل.

وأشار إلى الفرق بين احترام عقيدة الآخر والاعتراف بها، وأن ذلك لا يعني إذابة الفوارق بين العقائد والملل والأديان.

وأضاف أن هذا الخلط يأتي “في ظل التوجُّهات التي تدعي أنه يمكن أن يكون هناك دين واحد يسمى بالإبراهيمية أو الدين الإبراهيمي وما تطمحُ إليه هذه الدعوات فيما يبدو من مزج اليهودية والمسيحية والإسلام في رسالة واحدة أو دين واحد يجتمع عليه الناس، ويُخلصهم من بوائق النزاعات، والصراعات التي تُؤدي إلى إزهاق الأرواح وإراقة الدماء والحروب المسلحة بين الناس، بل بين أبناء الدِّين الواحد، والمؤمنين بعقيدة واحدة”.

ولفت إلى “أننا لم نر حتى هذه اللحظة هذا الوليد الإبراهيمي الجديد، ولا نعرف شيئا عن ملامحه وقَسَماته، وهل المقصود منه تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة، أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة”.

كما انتقد البيان الختامي لمؤتمر موقف الأمة الإسلامية من الديانة الإبراهيمية، مثل هذه الدعوات فأصدروا بيان مما جاء فيه، إن أساس فكرة الدين الإبراهيمي يقوم على المشترك بين عقيدة الإسلام وغيره من العقائد- وهي فكرة باطلة؛ إذ الإسلام إنما يقوم على التوحيد والوحدانية، وإفراد الله تعالى بالعبادة، بينما الشرائع المحرفة قد دخلها الشرك، وخالطتها الوثنية، والتوحيد والشرك ضدان لا يجتمعان، إن السعي لدعم «اتفاقات إبراهام» للتطبيع والتَّركيع عَبْر تسويقٍ لدينٍ جديدٍ يؤازر التطبيع السياسي هو أمر مرفوض شكلًا وموضوعًا، وأصلًا وفرعًا؛ ذلك أن الأمة المسلمة لم تقبل بالتطبيع السياسي منذ بدأ أواخر السبعينيات من القرن الميلادي الفائت، ولن تقبل اليوم من باب أَوْلَى بمشاريع التطبيع الديني، وتحريف المعتقدات.

وينطوي هذا المشروع على عدد من التداعيات والمخاطر المهمة منها:

أولاً: المخاطر الدينية

يحدد د.إسماعيل على أهم تلك المخاطر في النقاط التالية:

1- أن انتشار فكرة “الإبراهيمية”، ينطوي على تحول دور العبادة بالأديان الثلاثة إلى مراكز للدبلوماسية الروحية، ومن ثم ستفقد قدسيتها.

2- الدعوة إلى الإبراهيمية سبيل إلى تمييع الدين، وإضاعة معالمه وأركانه في نفوس المسلمين، وتهوِّن من حرص المسلم على التمسك بالإسلام والاعتزازِ به، بل إن الأمر قد يصل في بعض الأحيان إلى تهوين الخروج من الإسلام، والتحول إلى غيره؛ حيث إنه بحسب الإبراهيمية لا فرق بينه وبين اليهودية والنصرانية.

3- الإبراهيمية تنزِع عن الإسلام تفرّدَه بأنه الدين الوحيدُ الذي سلِم مِن التحريف، وتضفي على الأديان الأخرى المحرَّفةِ والباطلة صفة القدسية، وتلبسها ثوبَ البراءةِ من التحريف؛ مع أن الأهواء قد تلاعبت بها، وقلَبتها رأسًا على عقب.

4- من مخاطر الإبراهيمية كذلك أنها تؤدي إلى إضاعة العبادات التي شرعها الله تعالى، وفتْحِ البابِ واسعا للتلاعب بها، والابتداعِ فيها، كما حدث على سبيل المثال فيما سُمِّي بـ “الصلاة الإبراهيمية”.

5- الإبراهيمية سبيل إلى تعطيل مبادئ الشريعة الإسلامية، وإلغاء كثير من الأحكام التي أَمَر بها الله؛ حيث إن هذه الدعوةَ تقوم على التلاقي والاجتماع على ما يُسمَّى المشترَك الإبراهيميّ، والمقصود بهذا المشترك عند أصحاب هذه الدعوة هو القيم والمبادئ المشترَكة بين الأديان.

ثانياً: المخاطر السياسية

يرى جاسم يونس الحريري، أن المخاطر السياسية من الترويج لهذه الديانة يمكن حصرها في عدة نقاط أهمها:

1- هيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة من خلال التطبيع الشعبي بعدما نجحت في التطبيع الرسمي فقد طبعت مع معظم حكومات المنطقة، وتغيير هوية الأمة الإسلامية من خلال الديانة الابراهيمية.

2- تحاول إسرائيل توظيف مفهوم “الديانة الابراهيمية” إيجاد مدخلا للترسيخ بحق اليهود بالأراضي العربية الفلسطينية وإبعاد أتباع الديانات الاخرى عن مناصرة حقوق الشعب الفلسطيني.

3- فتح الباب واسعا أمام الحقوق التاريخية اليهودية المزعومة في الدول العربية، وخاصة في شبه الجزيرة العربية، والعمل على استعادتها.

4- أن تكون الإمارات دولة منزوعة الهوية من خلال دعوات التعايش مع الديانات “الوثنية” الأخرى في العالم كالبوذية، والهندوسية، خاصة أن الامارات نصبت تمثالا لبوذا في أراضيها، وافتتحت معابد للهندوس.

5- العبث بالمناهج مخطط هادئ ومستمر وفاعل في معظم الدول المسلمة، هدفه تغيير الفكر وتصفية القضية الفلسطينية من الجذور عبر سنوات طويلة، فالأجيال الجديدة لن يكون في فكرها المطالبة بفلسطين أو القدس كعاصمة لها من الأساس، فضلا عن ترسيخ فكرة تجريم مقاومة الاحتلال اليهودي والصهيوني للأقصى والقدس وفلسطين.

6- محاولة تغيير نظرة العقل الجمعي العربي والمسلم إلى الكيان الصهيوني، وبناء أجيال جديدة تتقارب مع الصهاينة كما يحدث حالياً في بعض دول التطبيع مثل الإمارات.

7- فتح الباب على مصراعيه للتطبيع السياسي والثقافي مع إسرائيل، والتهيئة للتنازل المستقبلي عن مناطق أوسع من الشرق الأوسط وتدويلها بحجة أنها مناطق إبراهيمية، ليست حكرًا على جهة معينة.

نتائج الدراسة

توصلت الدراسة إلى عدة نقاط أهمها:

1- الديانات الإبراهيمية مصطلح تم إطلاقه في الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وطرحه جاء ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية مشتركة وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية” لتمثل خلاله الأديان الإبراهيمية أحد أبرز أركان هذا المفهوم الجديد.

2- سعي الغرب على فترات سابقة لتسويق بعض المصطلحات التي يهدف من خلالها تغيير القناعات والأفكار في منطقة الشرق الأوسط، على سبيل المثال مصطلح “الإرهاب” أو “التجديد الديني” أو “الشرق الأوسط الجديد” وغيرها من تلك المصطلحات التي تخفي وراءها أكثر مما يبدو من اسمها ومظهرها، ويأتي مصطلح ” الديانة الإبراهيمية” في هذا الإطار.

3- تشير معظم الدلائل إلى أن المنطقة أمام مخطط استراتيجي وطويل الأمد ويبدو للوهلة الأولى ذو أهداف إنسانية سامية إلا أنه يحمل في طياته أهدافًا سياسية واستراتيجية تخدم مصالح قوى الإمبريالية العالمية.

4- مشروع الديانة الإبراهيمية ليس مشروعا ثقافيا فحسب بل هو مشروع سياسي طويل الأمد يهدف إلى تطبيع وجود إسرائيل ككيان طبيعي تمهيدا لتسويده في المنطقة من خلال تفوقه العلمي والتكنولوجي والثقافي.

5- سعت الإمارات مع فترة صعودها السياسي منذ الألفية الجديدة إلى توظيف الدين لخدمة رؤاها وتوسعاتها وبناء نموذج ديني يخدمها وما السعي لتبني والتسويق للديانة الإبراهيمية إلا محطة من هذه المحطات التي تهدف من خلالها إلى زيادة نفوذها السياسي والإقليمي.

6- الكيان الصهيوني يهدف من تطبيق مشروع الديانة الابراهيمية بمعاونة حليفتها الإمارات إلى محاولة الاندماج المجتمعي والثقافي في دول الخليج ومنطقة الشرق الوسط، ويبدو هذا جلياً من الاحتفاء الشديد من قٍبل إسرائيل من الزيارات التي يقوم بها بعض المواطنين من دول الخليج.

7- مثًلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 منعطفاً خطيراً في سياسة الإمارات، فقد توافقت رؤية الامارات مع استراتيجية الولايات المتحدة على العمل على تغيير المعتقدات والأفكار الدينية المرتبطة بالإسلام في الشرق الأوسط.

8- في إطار مواجهتها مع الإسلاميين، سعت الإمارات إلى تقديم فكر إسلامي منفتح وليبرالي وإبرازه عبر نموذج الإمارات نفسها كدولة، وعبر إنشاء مؤسّسات دينية يجمعها العداء للوهابية والإخوان، ودعمها، إلى جانب مراكز بحثية لتفكيك الإسلام السياسي ودراسته، كما أنشأت كيانات موازية للكيانات الدينية، وأبرزها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

9- المحرّك الأساسي للدين الإماراتي هو السياسة، وفي سبيلها تمكّنت الإمارات من عقد تحالف بين التنوير العقلاني والفكر التقليدي الديني، على رغم تناقضهما الظاهر.

10- استخدام الدين وتوظيفه السياسي نهج انتهجته الامارات منذ الألفية الجديدة وهو نهج سياسي أكثر منه نهج ديني، فالقيادة الإماراتية تعتمد الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) كنهج سياسي لها.

11- رحبت الامارات بمشروع الديانة الابراهيمية وعملت على تبنيه وتسويقه من خلال مسارات عدة كان أهمها التطبيع مع الكيان الصهيوني وفتح الامارات أمام الصهاينة لتنفيذ استراتيجيتهم الجديدة للاندماج المجتمعي في المنطقة العربية، ففيما يبدو أنها تشكل رأس حربة في مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، الذي تختفي فيه معالم العروبة والإسلام لصالح الرؤية الصهيونية، وما (البيت الإبراهيمي) إلاّ إحدى المؤسسات المناط بها العمل لتمكين مشروع الديانة الإبراهيمية الجديدة.

12- اتخذت الامارات عدد من الوسائل للتسويق هذه الديانة بدعوى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية ومواجهة المنظمات الإرهابية، وبرز ذلك من خلال إنشائها العديد من الكيانات والمؤسسات والمؤتمرات والندوات والمبادرات والاتفاقيات التي تدعو إلى الالتفاف حول ما يسمى الديانات الإبراهيمية الثلاث.

13- انتهجت الامارات ما أطلقت عليه بمبادرات التسامح كوسيلة لفرض رؤيتها حول الدين ووسيلة من وجهة نظر قادتها لمواجهة الحركات الإسلامية فأطلقت عدد من المبادرات لدعم هذه الرؤية.

14- تمثل نظرة قادة الجيل الثاني من قيادة الامارات تجاه الدين محرك رئيسي في تبنيهم للترويج للصوفية والجامية تارة والديانة الابراهيمية تارة أخرى، فقادة الامارات يريدون منطقة شرق أوسط علمانية بعيدة عن الدين.

الخاتمة:

تٌمثل “الديانة الابراهيمية” محطة جديدة من محطات الصراع العربي الصهيوني ولكن الصراع يأتي هذه المرة في سياق عقائدي وفكري، وتنبع خطورته من تناوله للدين كميدان للصراع.

كما أن من يتبني هذه الدعوة ويتكفل الإنفاق عليها وتسويقها هي دولة عربية وإسلامية والتي تمتلك الكثير من الأذرع الإعلامية والسياسية داخل المنطقة مما يساعد على تنفيذ رؤاها واستراتيجيتها المرتبطة بالاندماج الصهيوني في المنطقة.

فالمنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من مراحل مسخ الهوية الإسلامية والوطنية لصالح التبعية الصهيونية، والمرجح أن الإمارات لن تتوقف عند مشروع “البيت الإبراهيميّ”، بل ستتجاوز ذلك للدعوة للتعايش مع الديانات الوثنية الأخرى، كالبوذية والهندوسية، خاصّة وقد سبق لها أن نصبت تمثالا لبوذا إله البوذيين في أراضيها، في إطار ما أطلقت عليه “مبادرات التسامح”.

فإعادة رسم المنطقة من جديد يستدعى تغيير عقيدتها وفق نموذج تهميش الأديان ومسخها وهذا ما تسعى إليه الإمارات وحليفها الجديد “الكيان الصهيوني”، للقضاء على ما تبقي من مقاومة ورفض شعبي للوجود الصهيوني، ويبقى وعي الشعوب وإدراكها الركيزة الأساسية في نجاح هذ المخطط أو فشله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى